رواية «اللّيالي البيضاء» لفيودور دويستويفسكي
«الحبُ يجعلنا ضُعفاء، والأضعفُ بين الإثنين يُقتلُ، ويدمره الآخرُ»، هذا الكلامُ هو ما تستشهدُ به مؤلفتا كتاب «الفلاسفة والحب» لعرض الجانب السوداوي في تجربة الحب، وفقاً لهذه الرؤية فإنَّ الحب وجه آخر من الحرب، وتسقط في حلبته الضحايا، كما يتركُ جروحاً بليغة لدى المُحبين ولا تكون حالة الحُبِ والغرام مُكللاً بالورود، مشعّاً بالأمل، بل قد يولد من كل حب عظيم أفكارُ قاسية وعنيفة، حسب تصور الفيلسوف الألماني (نيتشة)، وبذلك لا يخلو الأمرُ من النزق وأشبه بالإنجراف وراء المجهول، ولكنَ الكاتب الروسي فيودور دويستويفسكي يُفضلُ معالجة موضوع الحب في روايته العاطفية «الليالي البيضاء» (المركز الثقافي العربي 2016) بناء على فلسفة مرحة، بعيداً عن كل الإلتواءات في التعبير والرومانسيات البكائية التي تنضحُ بالحزن والتحسر على زمن غابر ومشاعر حب فائضة، لم تَعُدْ منها إلا أحلاماً شاحبةً، هذا لا يعنى بأنَّ صاحب (الشياطين) ينقطعُ تماماً عن تقاليد الأُسلوب الرومانسي، ويضرِبُ بعاطفة الحُبِ عرض الحائط، بل يُفتّشُ عما هو مضمر في المشاعر الحميمية من مصادر السعادة، وما يحتاجُ إليه الإنسان من إقامة التواصل مع الآخر، وضرورة الخروج من حالة الإنغلاق على الذات، ومُشاهدة تأثير إنفعالاته الداخلية في ذهنية المُقابل، لعلَّ بذلك يجدُ تفسيراً لما أشكلَّ عليه، شخصيات رواية «الليالي البيضاء» محدودةُ، بل يتركزُ الحوارُ بين شخصيتين، الراوي الذي من مفتتح العملِ يخاطبُ المتلقي مباشرةً، مستعيداً وقائع أربعة ليالِ، ولا يكون مهيمناً على خيط السرد بل يتخلى في بعض المقاطع عن وظيفته تاركاً زمام الروي لصديقته ناستينكا التي بلغت السابعة عشرة من عمرها للتو، ومضى على غياب حبيبها عامُ، وهي بدورها تُسردُ قِِصةَ حياتها لمن تلتقي به فجأة بينما هي واقفة في المكان الذي تنزهت فيه مع حبيبها قبل أن يسافر إلى موسكو، ولا تقف حياة ستينكا عند هذا الحد وهذا لا يكون إلا حلقة ممّا ترويه لصديقه الذي لا يُذكر له إسمُ.
الوحشة
الشخوص في الرّواية
تحمل القراءات المختلفة
تمرُ ثماني سنوات على وجود بطل الراوية في مدينة بطرسبورغ دون أن يفلحَ في بناء علاقات الصداقة، يمضي أوقاته في متابعة سير حياة المدينة قبل أن يأوي إلى ركنه الذي تعششت فيه العنكبوت، ولا يتبادلُ التحية إلا مع العجوز الذي يمسكُ بعصا ذات مقبض ذهبي ،إذ يفسر موقف العجوز بأنَّ الأخير أيضاً ربما يعاني من الكآبة والوحدة لذلك يوميء إليه ويحييه برفع القبعة، كأنَّ بدوستويفكي يُحيلنا إلى فالتر بنيامين الذي يقول بأنَّ (الغريب هو نسيب الغريب).
يتخيلُ الشاب الوحيد بأنَّ المنازل تتحاور معه، وتحكي له قصته وأحياناً تخبره بما ينوي أصحابها من القيام بأعمال الهدم والترميم،أو إضافة طابق جديد إلى المنزل، وبهذا تصبح المنازل صديقةً للبطل الذي يُفوض إليه المؤلف مهمة تضفير وحدات القصة، وأحياناً يتوهمُ صرخات أحد أصدقائه مشتكياً عن إعادة صبغه بلون لا يعجبه، بجانب ذلك يتابعُ هذا الشاب رحلة أهالى بطرسبورغ إلى الضواحي وبعض الجزر، ويصفُ مشاهد تلك التنقلات وما يتوقعه عن وجهة الأُسر البطرسبورغية، ويصورُ لحظات نابضة بالجمال، ما يوحي بأنَّ الراوي مرهف الإحساس متذوق لما يحومُ في مُحيطه من مناظر لطيفة، مثلما تراه في هذا المقطع.
(هناك إنفتحتْ نافذةُ في البداية طبلت فوقها أنامل ناعمة وبيضاء كالسكر، ثم برز رأس فتاة جميلة، أومأت لبائع متجول ينقل أصص أزهار) وبذلك يجمع مؤلف (مذكرات قبو) بين جمال المرأة والطبيعة،فضلاً عن ذلك يتكررُ في مشاهد أخرى يشبه أجواء مدينة بطرسبورغ وما يتشكل لدى الراوي من إنطباعاتِ متناقضة حيالها فتاة قد لاتسترعي إنتباهك، ولكن في لحظة ما فجأةً تغدو جميلة تَمْلِكُ قلبه،هكذا أنَّ الوحدة لا تمنع هذا الشاب من إدراك جماليات مناخ المدينةِ التي يجوب في أرجائها مُنفرداً، بل يُفْهَمُ من سياق تعبيراته أن سحر الطبيعة وجمال المرأة لا ينفصلان، وبهذه الخلفية التي تتبلور عن أحد ركني القصة التي يُنهضُ عليها هيكلُ العمل، يكتفي المؤلف باسترسال السرد في قالب أقرب إلى المونولوج ويتحول إلى مفصل جديد في بنية الرواية.
علاقة مشروطة
تدخلُ حياة البطلُ مرحلة جديدة، عندما يتعرفُ على ناستينكا، فهي تبدي تعنتاً في الإنفتاح على السارد الذي يتناهى إليه صوت بكاءها،وما إقتربَّ منها حتى هربتْ غير أن الموقف يتغيرُ حين يتحرش بناستينكا أحدُ سكارى وماكان من الشاب إلا أن يتداركها منقذاً إياها من نزوة السكير،وهذا التصرفُ يكونُ منطلقاً لبناء علاقة الصداقة بين الإثنين،ومن ثُمَّ تتضحُ تركيبة الشاب أكثر إذ ليس له دراية في التعامل مع الجنس الآخر وهذا ماتشعرُ الفتاةُ حيثُ لاتخطيء في قراءة علامات الإرتباك على محياه، ويتواعدُ الإثنان على اللقاء في كل ليلة غير أن أمر اللقاء مشروطاً بأن لا يقعَ الشابُ في حُبِ ناستينكا، ويبدأُ كل واحد منهما بمكاشفة مايجولُ في خاطرهما، حيثُ يصفُ الشابُ بأنَّه شخص حالم، وما يتمناه لا يعدو كونه جملةً من تخيلات مراهقة، هو يريد أن يتقمص شخصية شاعر مجهول، إذ سرعان ما يتوّجُ بأكليل المجد،كما أن أدوار البطولة تداعبُ مخيلته، ولا يقتنع بدور أقل من دور مشاهير الثورة الفرنسية، يفضلُ الشابُ أن يتخذ فاصلاً بينه وبين مايتخيله وذلك عبر توظيف الضمير الغائب، ويدسُ المؤلف في هذا الأطار أسماء بعض وقائع وشخصيات تاريخية، مثل (هوفمان، مذبحة سان بارتيليمي، كليوباترا، دانتون، معركة بيريزينا)، وبعض الجمل التي يتفوه بها الشاب تكشفُ عن جانب عبثي من شخصيته، وما يمكن أن تستخلص إليه عبر ما يعرض عن هذا الشاب أن الأخير ينقصه الحبِ، ولو تحقق كل ما يحلمُ به لا يعوض غياب الحب.
المقلب في الرّواية
العاطفية مفتاح الأسرار
مقلب آخر من القصة هو ترويه ناستينكا عن حياتها مع جدتها العجوز وهي ضريرة تتعهد برعاية الفتاة بعدما غيبَّ الموتُ والديها،تعلمها اللغة الفرنسية، جدير بالإشارة أن الثقافة الفرنسية كانت نموجاً أنذاك لذا كثيراً يشير الأدباء الروس إلى فرنسا في متون رواياتهم أمثال (ليرمنتوف، تورغينييف، تولوستوي) تربطُ الجدة ثوب الفتاة بثوبها بدبوس لتظلا مرتبطتين، وحدو حياة الفتاة اليافعة هي المجال الذي تتحرك فيه الجدة، ولا تنفعُ محاولات ستينكا للإفلات من هذا العالم الضيق، تستمرُ أيامُها على هذا المنوال إلى أن يحلَّ شابُ مستأجراً في بيت الجدة، يزود الفتاة بالكتب وهي من جانبها تقرأها للعجوز مع أن الأخير تتحفظ على القصص الغرامية وتتطور العلاقة مغلفة بالحذر إلى أن يُصاحبَهما الشاب في إرتياد المسرح ومشاهدة أوبرا حلاق إشبيلية لروسيلينى،تحسُ الشابة بما يساروها من حالة غريبة كلما صادف وجود الشاب الذي بدأ يوليها إهتماماً، بينما تنشأُ بذورُ الحب في قلب ناستينكا يفاجِئهُا النزيل بمغادرته للمنزل، هنا تريدُ ناستينكا مرافقة حبيبها لكنَّ الأخير يقنعها بأن ظروفه لا تساعده على الزواج.
«السيسبانس» أو عندما
تكتفي الرّؤى بلغة العيون
وفي الوقت نفسه يتعهدُ بأنَ بعد سنة سيعود من موسكو ويتزوج بها إنْ انتظرت، وهي تتمسك بأهداب الحلم وما أن يقتربُ موعد عودته حتى تعاود زيارة مكان تنزهما غير أن أياماً تمضي ولا يظهر الحبيبُ، ولا يردُ على رسالتها، ما يدفع بناستينكا أن تفكر في الإرتباط بصديقها، وتدعوه إلى أن يقيمُ في منزل الجدة، وفي الليلة الأخيرة حين تمشي الفتاة مع صديقها الجديد، تسمعُ صوتاً يناديها فإذا بها تجدُ حبيبها السابق، هنا تتكثفُ حركة درامية وتتبين خطوط الحبكة، والثيمة الأساسية وهي أن الحب حالة لا تُفسر ولا بديل لمن تُحبه، بالمقابل أن سلوك الراوي وموقفه الخالي من الإحن والندب على الحظ بعد عودة ناستينكا إلى حبيبها يبرزُ ضرورة المرونة مع أطوار لا يمكن تحليلها وفقاً للمنطق المتعارف عليه. العمل موزع على أربعة فصول والأسلوب يتميز بالخفة والسلالة في التعبير. تنتهي الرواية بوصول جواب حبيب ناستينكا إلى الراوي لأنَّ الأخير راسله بعنوانه.