مازالت منطقة الريف الواقعة شمال المغرب، تعيش منذ ما يقارب السنة، أجواء التوتر والاضطرابات التي أطلقت شرارتها حادثة مقتل بائع السمك محسن فكري في مدينة الحسيمة مطحونا في شاحنة نفايات، عندما أراد استعادة سلعته التي صادرتها منه الشرطة.
ومنذ تفجّر موجة الغضب الشعبي، سعت السلطات المغربية للتهدئة واحتواء تداعيات هذا الحادث الفظيع، فأرسلت وزراء و مسؤولين كبارا إلى موقع الحدث، كما أصدرت المحاكم إدانات في حقّ الضالعين في مقتل فكري، لكن هذه الزيارات والأحكام المخفّفة التي أصدرتها المحاكم ولم تكن غير ذرّ للرماد في الأعين، لم تزد الناقمين إلا غيظا وعزما على المضي في احتجاجات توّسعت مطالبها من القصاص والعدالة، إلى المطالبة برفع العزلة التي تعانيها المنطقة والقضاء على البطالة والفقر التي يتخبط فيهما أهلها، وتوفير الخدمات الاجتماعية التي يفتقر إليها الريف، الذي يعدّ بحقّ من أفقر المناطق في المغرب.
حادثة مصرع بائع السمك أشعلت غضبًا شعبيًّا واسعًا، تحوَّل سريعًا إلى مسيرات ومظاهرات حاشدة تجوب مختلف مدن المغرب بما فيها العاصمة، ولما انفلتت الأمور من بين يديها وعجزت كل محاولاتها عن وقف زحف الناقمين، لجأت السلطات المغربية كعادتها إلى العصا، معتمدة على المقاربة الأمنية، مطلقة العنان ككل مرة للقمع البوليسي والاعتقال التعسفي، حيث زجت بمئات الشباب المحتجين في السجون، وحاصرتهم بتهم ثقيلة منها تهديد الأمن الوطني والخيانة العظمى والتي تصل أحكامها إلى الإعدام.
فما هي حكاية «حراك الريف»، ما أسباب هذا الحراك الظاهر منها والمستتر، ولماذا يتعرض الريف دائما للتهميش، و يواجه سكانه بالقوة كلما خرجوا للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية والإنسانية، وفي الأخير كيف سيخرج المخزن من هذه الورطة وبأي ثمن؟
مصرع بائع السمك يشعل عود الثقاب
دعنا في البداية نعود إلى ذلك اليوم المشؤوم ،الجمعة 28 أكتوبر 2016، عندما اقترض الشاب محسن فكري المولود في عام 1985 والعاطل عن العمل، مبلغًا ماليًا لشراء بعض السمك وإعادة بيعه، قبل أن يفاجأ بأمن المدينة يحجز سلعته - بحجَّة عدم قانونية صيد ذاك النوع من السمك - ويلقي بها داخل طاحونة نفايات، ما دفع فكري للارتماء داخلها معتقدا أنه بذلك سيثني الشرطة عن تنفيذ عملية إتلاف السمك، لكن الشرطيّ أمر بتشغيل الطاحونة وهو بداخلها، فتوفي على الفور.
مباشرة بعد الحادث الرهيب، اهتزّت شوارع الحسيمة بالمتظاهرين المندّدين بما اعتبروه جريمة قتل متعمّدة من قبل السلطات الأمنية، وقد رفعوا صورا وفيديوهات ترصد الطريقة المروعة التي مات بها محسن فكري.
وفي اليوم التالي، السبت، قدم مئات الأشخاص من المناطق المجاورة لمشاركة الحسيمة غضبها على السلطات، وأيضا لحضور جنازة فكري التي كانت مهيبة وتحوّلت إلى مسيرة عفوية ناقمة.
بالتوازي مع ذلك، كانت حملات التضامن على مواقع التواصل الاجتماعي تتوسّع، وأطلق ناشطون دعوات للخروج في مظاهرات شعبية بمختلف مدن المغرب، تضامنًا مع من أطلقوا عليه «شهيد السمك».
هذه الدعوات لاقت استجابة كبيرة، حيث خرج آلاف المغاربة في مسيرات شعبية حاشدة الأحد، في أزيد من عشرين مدينة مغربية، منها الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة ووجدة وأغادير ومكناس وتطوان والناظور والحسيمة، رافعين شعارات ساخطة على النظام، من مثل «الشعب يريد إسقاط المخزن»، و»الجماهير ثوري ثوري على النظام الدكتاتوري»، و»حرية كرامة عدالة اجتماعية»، و»الشعب يريد قتلة الشهيد»، و»الشهيد مات مقتول والمخزن هو المسؤول».
وتعتبر هذه الاحتجاجات هي الأقوى منذ اندلاع مظاهرات حركة 20 فيفري 2011.
السلطة تفشل في امتصاص الغضب
أدركت السلطات المغربية بسرعة أنها في وضع لا تحسد عليه، فسعت إلى محاصرة النار الملتهبة وإخمادها قبل أن تنفلت الأمور من بين يديها، فأمرت قوات الأمن بتجنّب استفزاز المتظاهرين والاصطدام معهم، وأعلن وزير الداخلية فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات بشأن موت محسن فكري، وتمت إقالة مندوب وزارة الصيد فورًا، كما تدخل كل من وكيل الملك وعامل الإقليم، ليلقيا كلمة أمام المحتجين واعدين بمتابعة الملف ومحاسبة المتورطين.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، ارتفع من بين أصوات الشباب الغاضب، صوت ناشط ساخط يدعى ناصر الزفزافي، فنال بشجاعته إعجاب الحاضرين الذين صفقوا لجرأته، ومند ذلك الحين أصبح يقود الاحتجاجات إلى أن زجّت به السلطات في السجن في الصائفة الماضية.
توسّع المطالب وتمدّد الاحتجاجات
مطلب الشباب المنتفض في مدينة الحسيمة وضواحيها، انحصر في البداية في معاقبة المسؤولين عن مقتل محسن فكري، لكن بعدما اتجه القضاء إلى معاقبة «مسؤولين صغار» كخطوة لم يكن الهدف منها غير امتصاص الغضب المتفجّر، قرّر الشباب تشكيل «لجنة الحراك» وتوسيع مطالبهم لتشمل مطالب اجتماعية واقتصادية، منها إقرار مشاريع تنموية في الحسيمة لوضع حدّ للتهميش الذي تعاني منه المدينة الريفية، وتأمين وظائف للشباب العاطل عن العمل، وأيضاً تشييد مستشفى تخصصي، فضلاً عن رفع مظاهر العسكرة عن منطقة الريف.
الزفزافي.. قائد الحراك ونجمه الساطع
في لمح البصر، تحوّلت الاحتجاجات إلى حراك يمتد من مدينة إلى أخرى ولا توقفه عراقيل أو هراوة ، وحتى يصمد هذا الحراك ولا تنطفئ جذوته، تولى قيادته نشطاء مغمورين، كان أبرزهم ناصر الزفزافي، الذي بات سكان الريف ينتظرون قراراته في تحديد مواعيد المسيرات والوقفات الاحتجاجية.
نجم الزفزافي ـ كما كتب أحدهم - سطع في سماء الحراك بسبب خطاباته النارية تجاه الحكومة التي يصفها بـ»العصابة السياسية»، والأحزاب التي ينعتها بـ»الدكاكين السياسية»، والدولة التي يتهمها بتهميش الريف وإذلاله.
«شيطنة الحراك» والحل الأمني
رغم سلمية احتجاجات الريف وعدم لجوء المنتفضين إلى أي مظاهر للعنف أو الاستفزاز، ورغم أن مطالب الشباب لم تتجاوز النطاق الاجتماعي والاقتصادي، فقد قرّرت السلطات المغربية مواجهتهم بالهراوة والقمع والاعتقال، محتمية كعادتها بالمقاربة البوليسية بزعم أن المحتجين تجاوزوا الخط الأحمر، وأصبحوا يهدّدون الأمن العام ووحدة البلاد. المخزن، وبعد أن عجز عن تطويق «تسونامي» حراك الريف، أخذ يكيل الاتهامات الخطيرة جزافا للنشطاء، وينعتهم بالخونة الذين ينفذون مؤامرة خارجية تستهدف المملكة، كما اتهمهم برفع أعلام الريف، وشعارات تمجّد الشعب «عوض» الملك وتصف الأجهزة الأمنية بالقمعية.
ذرائع المخزن كثيرة، لكن الأكيد أن اعتماده على المقاربة الأمنية التي يحتمي وراءها من غضب شعبه، مرتبطة بالأساس بحالة الرعب التي سكنته جراء هذا الحراك الذي لا يتوقف، والذي بات يشكل حزاما ناريا يحاصره من كل الجهات .
تهم ضد الناشطين تقود للمشنقة
لما قرّرت أنه حان الوقت لوضع حدّ للاحتجاجات، ألقت السلطات تهمة التخوين وزرع الفتنة على نشطاء الريف، وشدّدت الرقابة بحقّ متزعمي الحراك، حتى تجد الذريعة المناسبة لاعتقالهم.
وبالنسبة للزفزافي، فقد اغتنمت السلطات كلمته يوم الجمعة 26 ماي الماضي، داخل مسجد «ديور الملك» في الحي الذي يقطنه، حيث ردّ على خطيب الجمعة الذي وصف متزعمي الحراك بالمفتنين، فقامت باعتقاله وناشطين آخرين بتهم ثقيلة، منها «المسّ بالسلامة الداخلية للدولة، واستلام تحويلات مالية ودعم لوجستي من الخارج بغرض القيام بأنشطة دعائية من شأنها المساس بوحدة المملكة وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية ولمؤسسات الشعب المغربي، فضلاً عن إهانة ومعاداة رموز المملكة».
هذه التهم لا تقود إلى مكان آخر غير غرفة الإعدام، ورغم الانتقادات الدولية والاحتجاجات الداخلية المتواصلة، فالسلطات المغربية ماضية في خيارها الأمني لحل أزمة الريف كما دأبت عليه سنة 1958 و 1984
و2004، فهي في كل مرّة ينتفض فيها أهل المنطقة إلا وتواجههم بالعصا الغليظة، وبمزيد من القمع والتهميش والازدراء، ما يحول دون بناء علاقة ودية بين الدولة والريف.
الحلّ بيد الدولة
الأكيد أن الخيار الأمني لن يطفئ النار المشتعلة بالريف، بل على العكس تماما حيث سيفاقمها أكثر، وهو إن تمكّن من إخمادها اليوم، فإنه لن يقوى على إطفاء جمرتها غدا، لتبقى كالنار تحت الهشيم، تلتهب في أي لحظة.
حل هذه الأزمة كما يؤكده جلّ المراقبين، بيد الدولة من خلال تنقية الأجواء المتوترة، والإفراج عن المعتقلين، وإقرار مشاريع تنموية فعلية لتجسيد «مشروع الحسيمة منارة المتوسط».
وإذا كانت العوامل التاريخية - كما يضيف هؤلاء المراقبين - لا تؤدي دوراً في صالح علاقة وديّة بين منطقة الريف، والدولة فمن واجب هذه الأخيرة المبادرة بإرساء علاقات جديدة تمنح الثقة في نفوس الريفيين، لتزيل عنهم التوجس الحاضر دائماً في تعاملات الطرفين.