بعد سنوات من التردّد وتمادي أصوات المختصين والمولعين بالأبحاث الأثرية والتاريخية الذين دقوا الأبواب قبل ناقوس الخطر بضرورة حماية وموقع «مرسى الدجاج» بزموري البحري من كل أشكال التهديدات والمخاطر المحدقة به ومن عيون المغرمين بكل شبر من عقار الولاية، نزلت أخيرا فرقة بحث أكاديمية من معهد الآثار لجامعة الجزئر-2 برخصة من وزارة الاتصال من أجل الانطلاق في عملية استكشاف أغوار الموقع ومواصلة مجهودات البعثة الأولى لسنة 2007..
على مساحة تقديرية تصل إلى 6 هكتارات وفق التصريحات الرسمية للسلطات المحلية ورئيسة البعثة العلمية عائشة حنفي، لكنها حسب العارفين بخبايا المنطقة من بعض المسنين الذين تحدثوا للشعب فإنها تتجاوز 20 هكتار بما تحتفظ به ذاكرتهم وتمتد من ميناء مرسى الدجاج وهي التسمية القديمة للمدينة لاعتبارات عدة أهمها أن هذا المرفأ التاريخي كان يشكل المحور وحلقة مركزية تدور حولها كل الحضارات التي مرّت على المنطقة بداية من فترة ما قبل التاريخ إلى الحضارات الفينيقية، الرومانية وصولا إلى الحضارة الإسلامية بكل روافدها إلى غاية الفترة الحمادية وبنو غنية مثلما أكد عليه الباحث فلاح محمد مصطفى ورئيس مخبر بمعهد الآثار.
تاريخيا لا شك أن هذا الموقع يشكل مرجعية حقيقية للأبحاث والحفريات الأثرية في الجزائر، خاصة الفترة الإسلامية التي لم تحظ بأي عملية من قبل مثلما أكدت عليه رئيسة البعثة على عكس الفترات الأخرى منها الرومانية التي عرفتها بعض المناطق من الوطن على غرار موقع تيبازة وتيقزيرت وقالت في هذا الشأن «موقع مرسى الدجاج يكتنز في باطنه عدة حضارات مرتبة طبقيا وفق التسلسل الزمني، وعليه، فإن الطبقة السطحية أو الأولى تشكل أهم مراحل الحضارة الإسلامية التي عرفتها منطقة المغرب الأوسط ومنها الحمادية، الزيرية والفاطمية بناء على بعض الشواهد المادية التي جمعت كأحجار البناء المزخرف والفخاريات التي سترشدنا بعد الدراسات التقنية المخبرية في تحديد جذورها التاريخية ومنبعها الحضاري وحتى إلى مواقع أخرى منتشرة بالولاية وباقي ولايات الوطن ثم الانتقال تدريجيا إلى الطبقة الثانية والثالثة التي تمثل حضارات سابقة، وعليه فإن الأبحاث بهذا الموقع تشكل أهمية كبيرة في مسار البحث العلمي التاريخي وأعمال الحفريات.
كما تشكل الخطوة على الأقل من وجهة نظرنا أهمية بالغة ونسبة نجاح أكيدة كونها تبنتها أيدي اكاديمية مختصة تمثل أساتذة وطلبة باحثين همهم الوحيد هو انجاز دراسات تاريخية ذات وزن علمي تثري المكتبة الجامعية وتعيد للمواقع والمعالم التاريخية والأثرية في الجزائر بريقها المستحق بعيدا عن البيروقراطية الإدارية ومتاهات اللعبة الإعلامية والاستغلال المظهري الظرفي المناسباتي الذي كثيرا ما تسبب في وأد العديد من المبادرات المماثلة.
الباحث محمد مصطفى فلاح: الموقع ذو أهمية كبيرة للبلاد
كشف الدكتور محمد مصطفى فلاح مدير مخبر علم الآثار، التراث وعلم القياس بجامعة الجزائر متحدثا لـ «الشعب» أن موقع مرسى الدجاج يشكل أهمية كبيرة للبلاد بالنظر إلى مكانته التاريخية والحضارية، كما نتوقّع أن تساهم الدراسات التقنية والمخبرية لبعض المواد الموجودة بين أيدينا حاليا خاصة الفخاريات وكذا عملية إعادة بناء المعالم الموجودة في شكل مجسمات بواسطة الإعلام الآلي في تحديد تاريخ الموقع وحضاراته المتعاقبة»، وأضاف الباحث في رده على سؤال حول أهداف البعثة وأهم الخطوات الأولى المستعجلة «نحن اليوم كما ترون بهذا الموقع المهجور الممتد على مساحة 6 هكتار ظاهرة لأنه أكبر من ذلك بكثير ويمتد سطحيا حتى الميناء حاليا لا نملك سوى بعض التحف الأثرية القليلة المتمثلة في أحجار وفخاريات تعود تاريخيا إلى فترة المرابطين والموحدين وبالضبط بنو غنية الذين ورثوا المرابطين قبل انهزامهم أمام الموحدين ولجوئهم إلى جزيرة مايروكا بإسبانيا في القرن الرابع هجري العاشر وحتى الثاني عشر ميلادي، وبالتالي هي آثار تختزن عمر المدينة في هذه الحقبة التي تتراوح ما بين 150 إلى 170 سنة تقريبا، ومنه نحاول الآن القيام بأعمال سطحية مسحية استعجاليه منها تسييج الموقع وتحديد مواقع المعالم في انتظار الانتقال إلى مرحلة الحفريات مستقبلا..
في سؤال عن أهمية الموقع سياحيا وإمكانية التعاون مع الباحثين الأجانب المختصين في الدراسات الأثرية، أكد مصطفى فلاح «أن أهمية موقع زموري تكمن في قربه من الميناء وتواجده في منطقة سياحية أصلا خاصة خلال موسم الاصطياف، حيث نسعى على غرار ما قمنا به في بعض الحفريات إعداده وتهيئته لفتحه أمام الزوار والسياح بهدف استغلاله في الجانب السياحي، أما فيما يتعلّق بالتعاون الخارجي، فلا يخفي عليكم أن العديد من الباحثين الأجانب عبروا عن رغبتهم في التعاون معنا ومشاركتنا مختلف الأبحاث والدراسات للاستفادة من تجربتهم خاصة بالنسبة للباحثين الاسبان، الايطاليين وحتى المصريين في حال وجود إرادة بالتأكيد للتكفل بمثل هذه المهام والأبحاث.
جمعية السواقي الثقافية: حارس أمين على المواقع التاريخية ببومرداس
ساهمت جمعية «السواقي» الثقافية لبلدية زموري التي يرأسها رابح بلعباس منذ تأسيسها في التعريف بالعديد من المواقع الأثرية والتاريخية بالمنطقة ومنها موقع مرسى الدجاج الذي ساهمت في إنقاذه من الزوال وزحف الاسمنت عن طريق التحسيس الإعلامي وتنظيم الأيام الدراسية بالتنسيق مع مديرية الثقافة للولاية إلى غاية تصنيفه وطنيا شهر جوان من سنة 2016، وهي الخطوة التي مهّدت للانطلاق في عملية الاستكشاف والبحث من قبل أساتذة وطلبة معهد الآثار.
في هذا الجانب يقول عضو الجمعية فريد قانا متحدثا لـ»الشعب» عن دور جمعية السواقي في حماية الموقع «لقد ساهمنا في كل خطوة في إنقاذ موقع مرسى الدجاج بداية من عملية الجرد الإضافي لسنة 2007، وانطلاق أول عملية بحث في نفس السنة، إلى جانب حملات التحسيس ودق مختلف الأبواب بالتعاون مع مديرية الثقافة من أجل العمل على إعداد ملف وبطاقة تقنية شاملة عن المعلم تمّ توجيهها إلى وزارة الثقافة التي قامت مؤخرا بتصنيفه وطنيا ومباشرة عملية البحث والاستكشاف، وعليه يمكن القول إن الخطوة تشكل مكسبا كبيرا لقطاع التراث بالولاية وبداية في الطريق الصحيح نحو تثمين باقي المواقع الأثرية..
هذا وقد توقّفت «الشعب» خلال العملية التي انطلقت أول أمس بزموري البحري عند بعض الحقائق المتمثلة أساسا في وجود نية من قبل بلدية زموري التي كانت ممثلة في انطلاق الأشغال للتأكيد على دورها ومسؤوليتها في حماية الموقع من مختلف التجاوزات المحتملة باعتباره يقع في إقليمها، خاصة وأن كل أصابع الاتهام كانت موجهة للسلطات المحلية بسبب غضّ الطرف والتقاعس في كبح جماح بعض المقاولات وحتى الخواص المتطاولون على الموقع الذي لا يزال يسيل اللعاب بالنظر إلى موقعه الاستراتيجي، كما كان تواجد الأمين العام للولاية وحضوره مراسيم إمضاء اتفاقية التعاون بين مديرية الثقافة ومعهد الآثار لجامعة الجزائر2 ضمانا كافيا وبحضور شهود كثر مثلما علق عليه جمال فوغالي من أجل دعم وإنجاح المهمة ماديا ومعنويا، والتكفل بتسييج الموقع أو الورشة المفتوحة مع توفير الأمن اللازم للطلبة والأساتذة الذين سيتنقلون دوريا للمكان مثلما طالبت به رئيسة البعثة.