اللباس القبائلي، الحلي تحمل موروث حضارة وهوية
شبـاب يقتحمـون صناعــة الفضــة حفـــــاظا علـى الأصالـــــة
تزخر بجاية بموروث حضاري وثقافي ضارب في عمق التاريخ ناتج عن تعاقب عديد الحضارات والأجناس من مختلف الأعراق والديانات على المنطقة الساحلية ذات الموقع الإستراتيجي المهم الذي يمزج بين زرقة البحر وجمال الشواطئ الساحرة والغابات الخضراء المتصلة بها، وكذا المواقع الأثرية التي تشهد على عراقة عاصمة الحماديين منذ عصور خلت أهّلها لكي تكون قبلة للزوار من كل أرجاء المعمورة رغبة منهم في اكتشاف سحر لؤلؤة المتوسط والتعرف عليها أكثر عن قرب، هذا ما وقفت عنده جريدة “الشعب” خلال الجولة التي قادتنا لهذه المدينة الرائعة. “الشعب” زارت بجاية وترصد خصوصية المقصد الجزائري الذي يحتفظ بأسراره وجماله.
تعرف ولاية بجاية توافدا كبيرا للسياح الأجانب على مدار السنة غايتهم الاستمتاع بخليجها المطل على البحر الأبيض المتوسط الذي يتميز بنظافة شواطئه التي تمزج بين زرقة المياه واخضرار الغابات المحيطة بها على غرار كل من تيشي، أوقاص، بوليماط، ميناء الولاية الذي يصنّف الثاني وطنيا بعد ميناء العاصمة، إضافة إلى قصبة المدينة، رأس كربون، قمة القرود وكذا قمة يما قوريا التي تحتوي على ضريح حارسة المنطقة مثلما روي لنا من بعض كبار الولاية الساحرة وكان ذلك خلال عقود خلت ولهذا يحجون إليها في مختلف المناسبات والأعياد تبركا وتيمنا بها من خلال إقامة “الوعدات” والصعود يكون مشيا على الأقدام في غالب الأحيان للاستمتاع أكثر بالمناظر الخلابة التي تتمتع بها “لفغايت” بالأمازيغية أو “الناصرية” نسبة لمؤسسها الناصر بن علناس ابن حماد بن زيري أحد ملوك بني حماد بالجزائر في القرن الـ 10 للميلاد وصولا إلى القمة التي تلامس الضباب الكثيف.
استغلال موسم الاصطياف للترويج للصناعة التقليدية
بما أننا في فصل الصيف والإقبال يتضاعف على عروس المتوسط خلال هذه الفترة هروبا من الحرارة المرتفعة وضجيج المدن الأخرى، استغل سكان بجاية المناسبة وجعلوها فرصة سانحة من أجل الترويج لموروث ثقافي آخر لا يقل أهمية عن المكسب الطبيعي . والأمر يتعلّق بالصناعة التقليدية من خلال إقامة معارض على الشواطئ وفي الأماكن التي تعرف توافد الزوار من داخل وخارج الوطن لاقتناء بعض الحاجيات للاحتفاظ بها كتذكار خاصة الأجانب لأنها ترمز لعراقة المنطقة التي تداولت عليها عدة حضارات من بينها الفينيقية.
ويكثر الاهتمام بالألبسة، الحلي، الأواني الفخارية، أخذ صور تذكارية هذا ما وقفنا عنده حيث يتواجد سياح من كندا، فرنسا، إيطاليا، تونس، إسبانيا وكذا من مختلف ولايات الوطن جاؤوا للاستمتاع بجمال هذه المدينة الرائعة.
جمال اللباس القبائلي وأصالته مطلب ملّح
يتمّ عرض اللباس القبائلي بمختلف أنواعه حسب نوعية الأقمشة التي يصنع منها بألوان عديدة، الأبيض، الأصفر، البرتقالي، الأسود، تجسد عليه نقوش بدقة متناهية. هذا ما كشفته لنا مليكة إحدى العارضات الشابة في العشرينيات من عمرها بالقول: “تعلمت خياطة اللباس القبائلي والطرز في ورشة خاصة بتيزي وزو لأنني أحب كثيرا هذه المهنة للحفاظ على الموروث الذي خلفه لنا أباؤنا وأجدادنا منذ عقود، وبما أن الفترة الماضية عرفت تراجعا كبيرا في هذا المجال، قررت أن أكون واحدة من اللواتي يعملن على إعادة اللباس القبائلي إلى مكانته الحقيقية على الصعيد الوطني إضافة إلى الترويج له خارج الجزائر”.
أضافت ذات المتحدثة وهي تسرد تجربتها: “خياطة اللباس التقليدي القبائلي تختلف حسب نوعية الأقمشة وأشكالها من منطقة لأخرى وتختلف معها الرموز وأشكال الرسومات التي توضع عليها حسب الخصوصيات التي تعبر أساسا عن طبيعة الحياة التي كان يعيشها عليها سكان بلاد القبائل أو الأمازيغ عامة الذين سكنوا شمال أفريقيا والصحراء الكبرى سابقا وهي مرتبطة بالطبيعة، الحياة اليومية لهم في تلك الأزمنة، الحيوانات المستعملة في مختلف الأشغال، أساليب العيش وغيرها من الأمور التي لها علاقة مباشرة مع نمط الحياة في الماضي، هذا هو المعنى الحقيقي للنقوش والرموز الموجودة في كل الألبسة القبائلية مع اختلاف أشكالها”.
واصلت مليكة “رغم العصرنة التي أدخلت على اللباس القبائلي إلا أننا حافظنا على الجوهر ما جعله مطلوبا بكثرة في كل الولايات، لأن الفتيات والعرائس أصبحن يشترينه أكثر بما أنه جميل، غير مكلف، مريح في نفس الوقت ويزيد من جمال، أناقة المرأة التي ترتديه هذا ما لاحظناه في السنوات الأخيرة وهو أمر مشرف جدا لأن الجزائر بلد شاسع وتمتلك موروثا ثقافيا كبيرا من ناحية الألبسة الخاصة بكل منطقة منها من الشمال إلى الجنوب والشرق إلى الغرب ونحن نفتخر عندما نجد نساء من ولايات أخرى يقبلن على اللباس القبائلي”.
عصرنة الجبة القبائلية رفعها للعالمية
وقفنا على دقة متناهية في الرسومات البربرية، والزخرفة الأمازيغية الموجودة في كل الألبسة التي كانت معروضة في مختلف الأماكن التي قمنا بزيارتها، هناك البسيطة والأمر يتعلق بالجبة التي تستخدم للأيام العادية، وهناك المتعلقة ببعض المناسبات الخاصة كالأعياد والاحتفالات والسهرات، في حين توجد ألبسة خاصة بالأعراس تمّ عصرنتها لكي تتماشى مع الطلب على غرار البدرون، القفطان، الجبة الخاصة بالعروس مزخرفة بطريقة مختلفة عن البقية وتكون ممتلئة أكثر بالمقارنة مع الأخريات لتمييزها عن غيرها من الفتيات، البرنوس المصنوع من الحرير أو المنسوج، الملحفة التي توضع على الرأس، ألبسة لكبيرات في السن، حتى البنات الصغار تمّ تصميم موديلات، حسب مقاسهن بما أن اللباس التقليدي الخاص بالمنطقة يعد أمرا ضروريا في كل البيوت.
كما لفت انتباهنا ونحن نتجول بين عروض الألبسة الساحرة المغرية، أن هناك من النساء اللواتي تحبذنّ استعمال الفوطة مع الجبة وأخريات تضعن الحزام الذي يتم خياطته بطريقة تشابه اللباس الذي ترتديه الفتاة أو ذلك الذي يصنع من الصوف التي يتم تلوينها وبعدها تكون على شكل ظفائر مختلفة الأشكال والألوان وهذا النوع تستعمله في غالب الأحيان كبريات السن وكل هذا التناغم والتناسق في الخياطة نابع من تعلق الكبير لأصحاب الحرف في منطقة القبائل بهذه المهنة الممتعة والقيمة بما أنها حفاظ على الإرث والتقاليد ومن جهة أخرى يعد مكسب اقتصادي بعدما أصبح اللباس القبائلي يعرض في أكبر المعارض الدولية.
من جهتها قالت لنا السيدة سجية وهي تشرح طريقة استعمال الأحزمة، معانيها ودلالاتها: “طريقة وضع الحزام في الجبة القبائلية له معانيهن لأنه في السابق كان يوضع حسب الحاجة هناك من تستعمله من أجل تسهيل حمل قلة الماء، حمل أبنائهن على ظهورهن عند قيامهن بأشغال البيت، وغيرها من الأغراض ولهذا فإن كل الأمور المتعلقة باللباس القبائلي لها معان وأهداف على غرار النقوش وهذا دليل كبير أن هذا الموروث له علاقة مع طبيعة المنطقة ويجب الحفاظ عليه وتعليم هذه الحرفة للجيل الصاعد حتى لا تندثر لأنه يعد رمز من مقومات هذه الأمة وفي نفس الوقت مكسب اقتصادي هام، لأن الأجانب أصبحوا يقبلون عليه ولمسنا عودة الجزائريين بقوة إلى كل ما له علاقة بالتراث وهذا مؤشر إيجابي من كل النواحي يشجعنا أكثر على الاستمرار في صنع مختلف الألبسة التقليدية”.
صناعة حلي الفضة تستقطب الشباب ..
صناعة حلي الفضة هي الأخرى لا تقل أهمية عن اللباس التقليدي في بجاية حيث تعرف رواجا كبيرا من طرف الحرفيين والبارز في الأمر أن أغلبهم شباب أرادوا حمل المشعل لمواصلة مهنة الأجداد لأنها تعدّ مصدر رزق لهم وفي نفس الوقت لها قيمة كبيرة لأنها أصبحت جزء من حياتهم وتنافس الذهب في المبيعات بدليل أن المحلات كلها يخصص جانب منها للذهب والجانب الآخر للفضة، مثلما أكده لنا البعض على غرار سليم قائلا لنا: “أملك محل خاص ورثته عن جدي الذي علمني كيف أصنع حلي الفضة الذي يعبر عن أصالة العائلة ولا نستطيع الاستغناء عنها أبدا وسنواصل في هذا الطريق وسأعلمها لأبنائي وهكذا تستمر الأمور بحول الله”.
نقوش ورموز تعكس التنوع الحضاري العريق
استفسرنا عن الرموز والنقوش الموجودة في القطع قال لنا محدثنا “كل الرموز والنقوش التي نرسمها في الحلي لها علاقة بالمنطقة وتعبر عن عراقة بلاد الأمازيغ بصفة عامة، الحروف الأمازيغية التي كان يستعملها السكان، الأدوات الحرث، الزرع، الجني، الظواهر الطبيعية، البحر، الشمس، مقاومة المستعمرين الذين تداولوا على المنطقة منذ عصور، حتى الألوان التي نستعملها لها معاني أيضا وتكون متناسقة مع اللباس القبائلي عند ارتدائهم، حيث تختلف الأسعار حسب الحجم و طرقة الصنع لأننا نتعب كثيرا في إنجازه وفي غالب الأحيان نستعمل أداوت تقليدية حتى نتمكن من وضع بعض الروتوشات النهائية”.
تعرف صناعة الحلي عدة أشكال دائرية، مكعبة، مستطيلة، ممزوجة مع بعض بأحجام مختلفة صغيرة، كبيرة، ثقيلة، حتى يجد الزبون ما يرغب فيه وفقا للأسعار التي تتماشى مع الطلب أيضا وهي مختلفة الاستعمالات هناك التي توضع في المعصم والأمر يتعلق بالأساور بشتى أنواعها، الخواتم، القلادات وهذه الأخيرة منها المصنوعة من الفضة فقط وأخرى تستعمل مع المرجان الذي يعطيها أكثر جمالا، الأقراط، وهناك أنواع من القلادات التي توضع على الرأس و الجبين، خلخال، الأحزمة، قطع تعلق في الثياب.
المادة الأولية مشكل يعيق الحرفيين
أما محمد حرفي هو الآخر تطرّق إلى بعض المشاكل التي توجههم يوميا “صناعة حلي الفضة أمر رائع وحب هذه المهنة جعلنا نستمر فيها أبا عن جد ولكن هناك عدة مشاكل تعيق عملنا والأمر يتعلق بنقص المادة الخام، إضافة إلى السوق السوداء لأنه هناك بعض الحرفيين غير المصرّح بهم ما يعني أنهم لا يدفعون الإتاوات بالمقارنة معنا ما خلق فارق في الأسعار لأنهم يبيعون بسعر أقل من المصرحين ومن دون شك أن الزبائن دائما يختارون الأقل غلاء وهذا الأمر لا يخدمنا ونطالب المعنيين بالتدخل وإيقاف هذه الفوضى حتى يتسنى لنا العمل مستقبلا من دون أي مشاكل ونطور هذا المجال أكثر لأن الفضة تعرف إقبال كبير من طرف كل الجزائريين”.
الفخار .. مكانة خاصة في عاصمة الحماديين
الفخار هو الآخر له مكانته في كل المدن سواء الأواني التي تستعمل بشكل يومي كالصحون، القدور، الطواجين، الملاعق، الجفون الطينية والخشبية وغيرها من المستلزمات المنزلية الأخرى على غرار قلة الماء، القلة التي يوضع فيها اللبن، وكل هذه الأمور تعد جزء لا يتجزأ من حياة سكان مدينة بجاية وتصنع بشكل خاص في المدن الداخلية على غرار آقبو، تازمالت، أوزلاقن والسبب يرجع إلى طبيعة الطين المناسبة من أجل صناعة الأواني عكس الأماكن الساحلية الرملية، كما أنها تستهوي السياح الأجانب والزوار كثيرا لأنها تختلف على الأدوات المنزلية التي اعتادوا عليها والتي تكون عادة مصنوعة من مادة الزجاج أو البلاستيك.
الزوار: سحرتنا الطبيعة والمنتجات التقليدية
إلين، زائرة من كندا عبرت عن إعجابها الكبير بما وجدته “جئت من كندا أردت اكتشاف مدينة بجاية لأنني سمعت عنها كثيرا وشاهدت عدة صور خاصة بها جعلتني أفكر في ذلك وأعجبت كثيرا بسحر المناظر الطبيعية الرائعة الجبال التي تحيط، إضافة إلى المناطق الأثرية التي تجسد عراقتها، وأخذت بعض الأمور التذكارية مثل خواتم، أساور من الفضة، قبعة مزخرفة بطريقة جميلة جدا كما أنني أعجبت كثيرا بطريقة صناعة الألبسة هنا وأخذت بعض الصور التذكارية لكي أوريها لأبنائي عند عودتي، خاصة أن السكان يمتازون بالكرم وتذوقنا بعض المأكولات وكانت رائعة المذاق”.
رجا، التي جاءت رفقة ابنها صاحب الـ 10 سنوات من تونس الشقيقة أعجبت هي الأخرى بالمكان “زرت الجزائر عدة مرات ولكن كنت دائما أذهب إلى العاصمة أو عنابة بحكم قربها من تونس وهذه المرة قررت زيارة ولاية بجاية لأنني سمعت عنها الكثير وكنت دائما أرغب في اكتشافها، ولكن لم تتسنَ لي الفرصة من قبل ولهذا فرحت كثيرا لأنني جئت رفقة ابني الذي أعجب أيضا بكل الأماكن التي توجهنا إليها، خاصة أن الجزائر وتونس تعرف تشابه كبير من كل النواحي العادات والتقاليد، اللغة، كما أننا أمازيغ ولكن هناك بعض الأمور التي أعجبت بها مثل الطبيعة الخلابة، اهتمام السكان بالصناعة التقليدية وهذا أمر رائع أيضا ولهذا سأعود إلى بجاية إذا تسنت لي الفرصة مرة أخرى”.