رواية أمشاج لـــ: كريمة عسّاس هي أحد الرّوايات الجزائريّة المعاصرة، التي نفضت الغبار عن قلم المرأة، بتجاوزها الكتابة عن الذّات الأنثويّة ومعاناتها من الهيمنة الذّكوريّة، التي كادت تقتل إبداعها، وتأكّد قول الرّجل بأنّ المرأة ناقصة عقل، وكائن عورة، وأعادت للمرأة الجزائريّة المبدعة اعتبارها، حين سرحت بخيالها إلى الأفق البعيد، وفتحت كتابها على عوالم الكون وبحثت عن سرّ الوجود، وكشفت عن كوامن النّفس الإنسانيّة المسكوت عنها والتي لا يقبل الكثيرون النّبش في دواخلها.
هي آلة مصوّرة لمعاناة الإنسان الدّاخليّة بسبب تفاقم الجراح، هي زبدة مخاض ناتجة عن إبداع الكاتبة التي أضافت إشراقة جديدة على المضامين التي نقلتها من اللّغة البسيطة العاديّة التي نألفها عند الكاتبة المرأة الجزائريّة، إلى لغة فلسفيّة تجاوزت المألوف، لتذهب بنا إلى تفكيك وتقويض كل تلك الحقائق الثّابتة.
رواية «أمشاج» هي رواية جسّدت لنا نوعا آخر من التّيمات هو الموت، لكن ليس أي موت، إنّما هو موت الخديعة المتمثّل في معاناة الإنسان من العنف المادي والرّوحي الذي يعيشه بسبب الظّروف القاسيّة التي قضت على أحلامه، وهذا ما جعل من الرّواية تشكيلا جماليّا يعبّر عن الرّاهن ويساير تحوّلاته وفق بناء خاص.
هذا الموت الذي وظّفته الرّوائيّة في روايتها لا يعكس الموت الفيزيقي الذي هو مصير كل كائن حي على هذه الأرض، وإنّما هو موت طرح على شكل هاجس فلسفي يروق فكر الرّوائيّة، كما يجعلها تتركه سؤالا مفتوحا للقارئ تفتح له من خلاله أفق واسعة للقراءة المؤجّلة، التي تمنح إبداعها بعدا جماليّا مميزا يعكس ألم المأساة، وهذا الموت قبل أن يكون جسديّا هو موت معنوي.
إذن رواية «أمشاج» جاءت تجسيدا لموت معنوي أفرغ الذّوات من انسانيّتها، تعيش حالة حصار شديد، لكن مع ذلك هذه الذّوات كانت على وعي عميق بهذا التّمزّق والتّشظي الذي سلخها من كيانها، كما كان الموت رمز الظاهرة اليأس والتّشرد الذي عانت منه الشّخصيّات، لتبدأ رحلة العبثيّة واللااستقرار تضرب بجذورها في أعماق الرّواية، كما هي في أعماق الوطن العربي الممحون، الذي حاولت الرّواية أن تكشف عنه، لكن بأسلوب مراوغ ولم تصرّح به، إنما هدفت إلى إيجاد شرخ بين ما يصرّح به النّص وما يخفيه.
إذن الرّوائيّة كريمة عساس من خلال روايتها «أمشاج»أرادت أن تكتب عملا إبداعيّا تطرح من خلاله فلسفة الحياة والموت في الوطن العربي عامة، والجزائر خاصة، حين جسّدت لنا الموت والقهر الذي عانه الشعب الجزائري أيّام العشريّة الحمراء، خاصّة الأطفال الأبرياء الذين مثلّتهم في شخصيّةرؤوف صاحب العشر سنوات الذي كان شاهد عيان على هذه المأساة، والذي ذبح بالسّكين لكنه عاد من الموت بأعجوبة ومعجزة من اللّه، لكن مع ذلك هو لم يؤمن بهذه الحياة أبدا، وكان يرى فيها موتا لكن من نوع آخر، وهو المتمثّل في الموت الرّوحي.
حتّى ذلك اليوم الذي التقى فيه بمريم، تلك المرأة التي هي الأخرى عانت القهر، واليأس، وفقدت الأمل في الحياة بعد موت ابنتها أناييس صاحبة الثلاث سنوات، بسبب خطأ غير مقصود منها، وهي منشغلة بتحضير كعكة عيد ميلادها، فأعطتها قارورة ماء كي تروي عطشها، ونسيّت أن تفتحها لها وتبلع الطفلة أناييس غطاء القارورة لتموت مختنقة، وتنتهي معها حياة مريم التي حاولت الانتحار لكن لم تفلح.
كان رؤوف ممرضا لها يتقصى أحوالها ويواسيها على فقيدتها، وفقيدها الذي رحل عنها دون عزاء، وهو زوجها الذي تخلى عنها ولم يراعي وجعها الكبير في فقدانها لفلذة كبدها، يرى رؤوف في حياة مريم أنّها شبيهة بحياته، فكلاهما يعتقد أنّهما إذا أرادا الحياة من جديد فلابدّ أوّلا من الموت..
بناءً على ما تقدّم اتّخذت كريمة عساس عنوان: «أمشاج»معادلا موضوعيّا يعكس وجه الأبرياء الذين تم قتلهم، والهزيمة التي لحقت بالإنسان العربيّ بسبب الفشل الإنساني والبطش، والجوع السيّاسي الذي حاول وما زال يحاول الفتك بالوطن وامتلاك ما ليس ملكه.
أي أنّ كلّ من العنوان والنّص يشكّلان معادلا موضوعيّا كبيرا، فالعنوان أصبح مكوّنا دلاليّا، ومكوّنا بصريّا مهمّا في فضاء الغلاف، لما يحمله من تقنيّات تلفت انتباه القارئ، الذي يقوم فيما بعد بالبحث عنها، وكشف دلالاتها المخبّأة، وهذا ما جسّده عنوان رواية: «أمشاج» الذي حمل العديد من الدّلالات والثنائيّات التي لعبت فيها اللّغة بإنسياباتها دورها بامتيّاز.
هذا كان بالنّسبة للعنوان أما المتن فهو يتكوّن من مجموعة شخصيّات تدور حولها الأحداث وكانت شخصيّة رؤوف ومريم هي الشخصيّات البطلة، والمحرّك الفاعل للنّص الرّوائي الذي يرتبط بالزّمن فيحتوي الحدث، ويحرّك الشّخصيّة، وينهض بالمعنى، ويشكّل الرؤيا، وينتج اللّغة، متحوّلا بديناميكيّة حركيّة دائبة من مجرّد إطار تزييني للأحداث، أو وعاء عام لها، إلى عنصر مشارك فعّال متعدّد الملامح والظّلال التي تعطي العمل الفنّي خصوصيّته.
فكلا الشّخصيّتين جاءتا ناقمتان عن وضعهما في هذه الحياة التي لم تترك لهما متنفسا، وجعلتهما يحيا حياة الموت، رؤوف يعيش حالة نفسيّة حادّة بسبب عودته من يوم القيّامة دون أن يموت مثله مثل والده ومن كان معه في الحافلة، رغم السّكين الذي نخر رقبته، ومريم هي الأخرى إنسان ميت ينبض قلبه للفردوس واللّحاق بمن كانت تحكيها حياتها ابنتها أناييس، التي غادرتها وهي مازالت نطفة لا تعرف من الدّنيا سوى أمها.
على هذا الأساس يمكن أن نصنّف هذه الرّواية ضمن الرّوايات ما بعد الحداثيّة لأنها اشتغلت على سؤال الموت وهو سؤال مفتوح أصبح يحضر كثيرا في النصوص الرّوائيّة المعاصرة، لأنه يخصّ كينونة الإنسان، فهذه الرواية سعت إلى الكشف عن حقيقة الإنسان ومدى تعلّقه بانتمائه المكاني، رغم اكتشافه بأنّه مكان مليء بالسوداويّة، إلا أنه يمثلّ لديه أحد محدّدات هويته الثقافيّة، وكان للعامل النّفسي الدّور الكبير في تحديد هويّته كونه متشبث بعادات وتقاليد وقيّم لا يريد تغييرها، يكفيه أنّه خرج من رحمه.
إذن نقول إنّها رواية تحكي عن انهيّار الأمة العربيّة، فهي تكاد تكون فشلا للشّرط الإنساني، وتأكيدا على مأساة الوضع البشري، لا مفرّ من القسوة، والألم، والعنف، والكره، والموت، والتبدّل الجارح، وذاك الشّعور الأصلي للإنسان، شعور المنفى بالمعنى الدّيني للكلمة (التوق إلى الفردوس)، والمأزق الوجودي، والأقدار الغادرة، فدلالة تشتّت الشّخصيّات التي كانت عصب الرّواية، وواجهتها، وصانعة صورها، وانهزاماتها، وسيّاستها، هي دلالة على خراب الوطن العربي وتفكّكه.
أيقونة الموت المكافئ بعيدا عن الورطة
هي أيقونة للموت المكافئ للنّسيان،إنّها رواية عن ورطة الحياة بأعمق معانيها، تعود فيها الرّوائيّة إلى الكتابة جهرا عن كل ما هو مسكوت عنه في حياتنا العربيّة والحياة الجزائريّة خصوصا، هي رواية عن الأسى، والخوف، والموت الإنساني.
هنا الرّوائيّة تتماهى مع شخصيّاتها التي تناولت قضيّة ومسألة مهمّة تمسّ الوطن والوطنيّة، هي التّوتّر الذي يعيش فيه الوطن العربي عموما والجزائري خصوصا، بسبب الإحباط السّياسي، والاجتماعي، والإنساني، الذي يضيق عليه فرص تحقيق الذّات، فيغرق في لجّة الضّياع، والخيبة، والخذلان، ومنعكساتها المؤذيّة، فالرّوائيّة هنا تمزج لنا بين القوميّة، وخيبة الوجود، واشتراطاته القاسيّة.
إذن الرّواية بنيت على أسطورة الواقع من خلال الإحالات الثّقافيّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، عرضت فيها الرّوائيّة التّحوّلات الكبرى التي شهدها الوطن العربي، عن طريق المزج التّرميزي والاستعاري بين حال الشّخصيّات التي تعاني القهر، وحال الوطن الذي غرق في لجة الضياع.
فالروائيّة أثناء كتابتها عن فضاء التشتت الذي يعاني منه رؤوف ومريم، كانت تصوّر لنا فضاء القهر، والفتنة، والعداء، والاقتتال، والإجرام، الذي كانت تمارسه الحزبيّة والطّائفيّة على الأهالي، تحت وطأة التّحوّلات السّياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة،إذا رواية «أمشاج» كتبت كترميز للموت الرّوحي، الذي نشر الرّعب والخوف مع الانغماس في العمل السّياسي التّهكمي، الذي قضى على طموحات الإنسان الذي يحلم بغد أفضل، وبسيادة وطنية عادلة.