الإستعداد لمعركة العبور واسترداد سيناء
شعرت مصر بخطورة الحرب القادمة وهذا ما دفعها إلى العمل، وخاصة بعدما قام الخبراء بدراسة ميدانية معمقة لمسرح العمليات وقدرات الجيش المصري وإمكاناته التسليحية، وضعت الدراسة في الاعتبار الموقف العسكري للعدو، وكان الخبراء العسكريون المصريون قد فكروا في خطة هجومية بمواصفات فنية كان للعلوم الرياضية والطبيعية والفلكية دور فيها؛ وعمد ضباط الجيش المصري إلى اختيار الوقت المناسب للقيام بالهجوم. وذلك بعد عقد مؤتمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمنزل أنور السادات، يوم 24 أكتوبر 1972م الذي قال وقتها :« إننا نقترب من شنّ الحرب على إسرائيل».
أضاف: « نحن اليوم أمام امتحان للقوات المسلحة خلاصته أن هزيمة جوان 1967 جعلت العدو والصديق لا يثق بأننا سنقاتل، ولذلك فإن الحلول التي تعرض على كلها تدل على أننا لن نحارب... أمام شعبنا وأمام العدو والصديق، لازم علينا أن نثبت أننا نستطيع أن نضحي ونناضل». أضاف قائلا: « القتال يتم بالأسلوب الذي يمكننا به وما عندنا من الأسلحة وبما لدينا نرسم ونخطط، وبذلك يكون الكلام له قيمة».
الحق أن الصحافة المصرية في أعدادها التي تلت تقلد أنور السادات الحكم كانت كلها تدفعه إلى الحرب دفعًا، إلى درجة أنه شعر بالمسؤولية، وقد ازداد ضغط الجزائر عليه ومن الرئيس هواري بومدين بصفة خاصة؛ إذ كان في كل مرة يتكلم مع الرئيس السادات على العدوان الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وأن الدول العربية لا تزال مستمرة في حرب البترول التي تم الإعلان عنها بعد حرب جوان 1967.
بما أن النجاح يحتاج إلى تخطيط؛ فقد استخدمت القوات المسلحة المهندسين المصريين للتخطيط المحكم لاختيار موعد بدء الحرب وتجنب أي أخطاء تعود على مصر والجيوش العربية بالويلات؛ فقد وضع هؤلاء المهندسون دراسة محكمة أخذت بعين الاعتبار المد والجزر، وسرعة التيار، واتجاهه، وساعات الظلام، وساعات ضوء القمر، والأحوال الجوية في قناة السويس، وحالة البحرين المتوسط والأحمر واختيار التوقيتات التي تحقق أفضل استخدام للقوات المصرية وشن الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية بنجاح، ووضع إسرائيل في أسوأ الظروف.
قرر أنور السادات دخول الحرب مهما كانت العواقب حتى يتخلص من الضغط المضروب على حكومته، وحتى يتم هزيمة العدو ويتم استرداد الأرض، لأن عدم تحريك القضية قد يؤدي إلى حالة من السكون، والصمت وموت القضية وفقدان الأمل وضياع العرب خاصة مصر في استرداد حقهم وعودة أراضيهم.
يقول محمد عبد الغني الجمسي أنه عندما حاولنا اختيار يوم الهجوم، درسنا أيام الأعياد لدى العدو:« وجدنا أن لديهم ثمانية أعياد في شهر أكتوبر وهي: عيد الغفران (يوم كيبور)، وعيد المظلات، وعيد التوراة وغيرها، ولكل عيد من هذه الأعياد تقاليد وإجراءات يقومون بها تختلف عن العيد الآخر».
كان يهمنا في هذا الموضوع معرفة تأثير كل عطلة على إجراءات التعبئة في إسرائيل التي تعتمد اعتمادًا رئيسيًا في الحرب على قوات الاحتياطي، ومن خلال الدراسة وجدنا أن يوم عيد الغفران سيكون، يوم السبت، والأهم من ذلك أنه اليوم الوحيد خلال السنة الذي تتوقف فيه الإذاعة والتلفزيون عن البث بوصفه جزءًا من تقاليد هذا العيد الذي يعد يوم سكون كامل؛ أي أن استدعاء قوات الاحتياط غير متاح؛ بسبب عدم توصيل المعلومة إليهم. ولم تكن الهواتف المحمولة متوفرة خلال السبعينيات، وكان إبلاغ جنود الاحتياط للتجمع يعتمد، أساسًا على الإذاعة والتلفزيون.
ووقع الاتفاق على شهر أكتوبر ليكون موعد بدء العمليات لأن الليل طويل والجو مناسب وتكون إسرائيل على موعد مع ثلاثة أعياد، بالإضافة إلى انتظارها للانتخابات البرلمانية، وفي المقابل تكون مصر في شهر رمضان المبارك الذي يكون مفعمًا بالأجواء الإيمانية حيث لا يتوقع العدو حدوث عدوان من جانبنا فيه.
في ذلك الشهر تكون الملاحة البحرية وحالة المد والجزر في القناة على أحسن الأحوال، وذلك يناسب القوارب وتشغيل المعدات وإنشاء الكباري (جسور على القناة لكي تمر فوقه الدبابات والعربات وغيرها)، كما لاحظ المهندسون أن القمر يكون ساطعاً في نصف الأول من الليل بما يساعد على إنشاء الكباري، والنصف الآخر من الليل يكون مظلماً ممّا يسهل عملية المرور داخل سيناء في تلك الأجواء. كانت الاستعدادات الحربية والتدريب العسكري، في كافة الأسلحة البرية والبحرية والجوية والاستطلاع على أشدها، وجرت عملية إخفاء وتمويه على نطاق واسع، وأصبح الجيش المصري على أهبة الاستعداد للانخراط في حرب واسعة ضد العدو الصهيوني، دون أن يعلم أحد من القيادات الوسطى والدنيا والجنود بالطبع موعد انطلاق الشرارة الأولى للحرب.
لقد أبدت الجزائر استعدادها لدعم القوات المسلحة المصرية، وحاولت مصر السعي لتعبئة العالم العربي، والجزائر خاصة إذ طلبت مصر منها الإمداد ببعض العتاد الحربي وجاء سريعاً بوصول 150 دبابة بتجهيزاتها وطاقمها وتموينها ومدافعها كافة. فقد كانت مصر في حاجة إلى قوة عسكرية مسلحة كافية حتى تتيقن أن العمليات ستكون لصالحها وحتى تدخل إلى الحرب بثقة.
في الوقت ذاته، استقبل بومدين مرة أخرى الفريق سعد الدين الشاذلي الذي وصل إلى الجزائر في زيارة سرية يوم 16 سبتمبر 1973م، وكانت مهمته إخباره بأن العد التنازلي قد بدأ، وباتفاق مشترك بين القيادة المصرية والسورية، أي أن الحرب ستندلع في حدود ثلاثة أشهر، وقد تكون غداً وقد تكون بعد 89 يوما كما جري الاتفاق عليه مسبقاً مع هواري بومدين ولم تذع أخبار الزيارة إطلاقا.
في الوقت ذاته أرسلت مصر وفدًا لتسلم بعض التجهيزات العسكرية للقوات المصرية ويحكي اللواء خالد نزار ما جرى في ذلك الوقت يقول :« لقد حملنا رسالة من هواري بومدين يبلغ فيها القيادة المصرية استعداد الجزائر لأن تضع تحت تصرف الجيش المصري ما يقدر بـ 60 طائرة حربية و150 سيارة مصفحة و100 دبابة كانت ستتسلمها الجزائر من الاتحاد السوفييتي، وكانت الجزائر قد من قدمت 4 أسراب من طائرات ميج17 و21 في جانفي1973».
اندلاع حرب السادس من أكتوبر 1973
قال محيي الدين عميمور: « كنت في مصر وقت اندلاع الحرب وأجريت مكالمة مع هواري بومدين من السفارة _الجزائرية_ » وذكر عميمور أنه « قبل أن يغادر سفارة الجزائر بالقاهرة يوم 6 أكتوبر 1973 اتصل برئاسة الجمهورية المصرية لإبلاغهم بأن هواري بومدين يحاول الاتصال بهم، وتم الاتصال فعلاً على الساعة السادسة وعشر دقائق من مساء نفس اليوم، واطمأن من خلاله بومدين على سير الأمور في الجبهة، وسأل السادات عن أي طلبات يريدها وركز السادات على بعض الأسلحة والذخائر، وقد أوضح الرئيس الجزائري للسادات أنه مستعد إذا دعت الحاجة لأي تحرك خارجي».
لمّا اندلعت الحرب كان هواري بومدين يراقب عن كثب ما يحدث في مصر، وهنا يقول عميمور: «وعُدت إلى الجزائر على متن الطائرة الرئاسية مستير 20 رفقة العقيد عبد الغني، ومررنا ببنغازي فوجدنا هناك قائد القاعدة الجزائري، والضابط البحري الرائد نور الدين بن قرطبي، يُعدّ لإرسال طائرات الميج 17نحو مصر، بعد أن أرسل سرب طائرات من الميج 21 الجزائري به نحو الجبهة، وكانت قاعدة بنغازي تستعد لاستقبال سرب السوخوي، تباعًا حيث إن الطائرات الحربية لا تستطيع قطع المسافة بين الجزائر والقاهرة بدون التزود بالوقود في نصف المسافة».
كانت المعلومات التي تصل إلى الجزائر عن الخسائر الهائلة إثر الاندفاع شرقاً في سيناء مثيرة للقلق. طلب أنور السادات من هواري بومدين أن يسافر إلى موسكو، ويبذل كل ما في وسعه لشراء الأسلحة، وبالفعل سافر هواري بومدين فوراً إلى موسكو، وذلك فجر يوم 16 أكتوبر وفتح حساباً بنكيّاً لإقناع السوفييت بإرسال السلاح اللازم بسرعة إلى مصر، وكان الشيك المقدم لهم فارغاً وقال بومدين للسوفييت:« اكتبوا فيه ما تشاءون».
حول هذا الموضوع يقول محيي الدين عميمور: «في الأسبوع الثاني من الحرب كان هناك شعور على مستوى الجزائر بأن الأمور لا تسير كما يرام، فبالإضافة إلى الأخبار المتواترة عن الثغرة، كانت التقارير تشير إلى احتمال وجود خلل في حجم الأسلحة بين الطرفين، وأتذكر يومها أنه، وطوال الليل الرمضاني، لم تطفأ الأضواء في مقر الرئاسة على مرتفعات المرادية، فقد اتخذ هواري بومدين قرار السفر فوراً إلى الاتحاد السوفييتي».
حول مباحثات بومدين مع السوفييت يذكر عميمور أن المحادثات كانت شاقة، ويستكمل حديثه قائلا :«لقد كان بريجنيف Leonid Ilyich Brezhnev لا يزال عاتبًا _يقصد السادات_ عليه بسبب طرده للخبراء السوفييت، وبأنه لم يخبره بموعد العمليات ولا بخططها، وبأنهم ضيعوا فرصًا كثيرة، ولكن الرئيس بومدين قال له بأنه لم يأتِ هنا لمناقشة هذا الأمر، بل جاء ليشتري السلاح للمقاتلين». وحدثت الملاسنة مع الأمين العام للحزب الشيوعي، وانتهى الأمر بالاتفاق مع السوفييت على إرسال أسلحة بمائتي مليون دولار تدفع الجزائر ثمنها على الفور بصكّ كان معداً لذلك. وقد أرسلت دبابات تعادل ثلاثة ألوية مدرعة، وجدير بالذكر في هذا المقام أن قرار الرئيس السادات بإخراج الخبراء السوفييت من مصر كان صائبا، إذا لو كانت قد بدأت الحرب والخبراء السوفييت هنا لكان قد قيل أن الحرب لم ينجزها المصريون أو العرب بل السوفييت، كذلك فإن سر النصر الذي تحقق على العدو الصهيوني في حرب أكتوبر 1973 كان الحفاظ على سرية موعد بدء الحرب، ومن المؤكد أنه لو كان السادات قد أبلغ السوفييت أو غيرهم بموعد نشوب الحرب لكان من المؤكد أن يعلم بها الإسرائيليون لأن لهم مخابراتهم في كل مكان, ولفشلت خطة الحرب.
نتيجة لنشوب الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة في أكتوبر 1973، وعبور القوات المصرية لقناة السويس، واشتعال الموقف في منطقة الشرق الأوسط صدر قرار مجلس الأمن 338 بوقف إطلاق النار وتلاه بعد ذلك صدور القرار 339، وفي الفترة ما بين صدور القرارين واصلت إسرائيل التحرك لتحسين مواقعها، فحاولت احتلال مدينة السويس ولكنها فشلت في مواجهة المقاومة البطولية هناك.
أصدر هواري بومدين قرارًا يأمر فيه كبار القادة العسكريين أن يكونوا على اتصال وثيق بتطورات الموقف العربي على الجبهتين المصرية والسورية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الموقع. كما وأرسل رسائل إلى رؤساء دول حركة عدم الانحياز يحثهم على تقديم المساعدات المعنوية والمادية للشعب العربي. خلال الحرب أعلن هواري بومدين: «أنه سيوقف خطة التنمية كاملة _في الجزائر_ حتى تنتهي الحرب، وأرسلت الجزائر قوات جوية مكونة من سربين من الطائرات الـ 21,19ميج سوريا».
في الوقت ذاته، شعر زعماء العرب بحاجة الدول الغربية إلى البترول؛ مما دفعها إلى استخدامه كسلاح تخويف وردع في حرب أكتوبر، وهو سلاح استراتيجي سياسي هام، وليس سلاحاً للعقاب والتوبيخ، على حد قول اللواء طه المجدوب.
في الوقت ذاته، طلبت الجزائر تأجيل زيارة وكيل وزارة الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية الذي قد قرر أن يزورها في منتصف نوفمبر 1973؛ بهدف اطلاع زعماء الجزائر على الموقف الأمريكي تجاه الوضع في الشرق الأوسط.
الحلقة (3)