يُعدّ العَلَم الكبير والشاعر المبدع، والصحفي المتميز، والمربّي المناضل، الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري (1902 ــ 1974) من الكُتّاب المجدّين والأدباء المجدّدين، الذين تركوا بصماتهم في مسيرة الأدب الجزائري الحديث، وسجلوا تأثيرهم في مشهده، ومن الذين أثروا المكتبة الوطنية بمجموعة من الآثار الأدبية؛ النثرية والشعرية والمسرحية، المطبوعة والمخطوطة، المحفوظة منها والمفقودة.
لكن ما يميّز عطاءه الأدبي أنه انفرد بتأليف وطباعة أول مسرحية عربية بالجزائر طباعة مستقلة ــ حسب ما وقفتُ عليه ــ أطلق عليها عنوان (مساجلة أدبية، اجتماعية، أخلاقية) إلى جانب تأليفه لعدة نصوص مسرحية أخرى، ضاعت جميعها لعدم توثيقها بالطباعة والنشر، باستثـناء هذه المسرحية التي سلمت، وذلك راجع لطباعتها وتوزيعها في تلك الفترة من قبل مؤلفها.
وبعد مرور ما يقارب من ألـ (90 عاما) على صدورها عام 1929، وطيلة هذه المدة لاقت الإهمال من قبل النقاد والباحثين والأكاديميين والدارسين ودوائر المسرح، ولعلّ ذلك يوعز إلى عدم وصولها إلى أيديهم ولعدم علمهم بها، لذلك كله يمكن ــ مجازا ــ إدراجها ضمن حيّز المخطوط. وقد سبق لي أن قمتُ بتثبيت غلافها في الصفحة 94 من كتابي (أعلام من بسكرة) في جزئه الأول، الذي صدر عن الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية لولاية بسكرة عام 2001 عند دراستي لحياته ومسيرته، والتطرّق إليها كذلك في كتابي تاريخ الصحافة والصحفيين في بسكرة وإقليمها الصادر عن الجمعية الخلدونية كذلك عام 2006، الصفحة 170، وأعتقد أنه لم يتطرّق إليها أحد من الباحثين والكتّاب قبل هذه المحطات التي ذكرتها، كما مكنت عديد الباحثين منها.
والأستاذ محمد الهادي السنوسي الزّاهري ولد خلال ربيع الأول 1320 هـ / 1902 م بقرية ليانة بـ (دائرة زريبة الوادي بولاية بسكرة) أديب وشاعر وكاتب ومدرّس، نشر إبداعاته الشعرية ومقالاته النثرية بعدّة جرائد، كـ: (المنتقد) و(البصائر) ومجلة (الشهاب ... وغيرها.
وبعد صدور العدد الأول من جريدة (القبس) في 30 أوت 1952 بالعاصمة، ترأس الأستاذ الهادي السنوسي تحريرها بداية من العدد الرابع الصادر يوم الاثنين 20 ربيع الأول 1372 هـ الموافق 08 ديسمبر 1952.
من آثاره المطبوعة كتاب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر)، الذي طبع الجزء الأول منه عام 1926 والجزء الثاني في 1927 بتونس، ومسرحية (مساجلة أدبية، اجتماعية، أخلاقية).
قال عنه صديقه الأديب المصلح حمزة بوكوشة بمجلة الثقافة، العدد 24، ديسمبر، جانفي 1975 ، ص 101: «يؤلف للمدارس الحرّة التي كان يُعلّم بها، أناشـيد مدرسية وروايات تمثيلية لها غايات سامية يُمثّلها التلامذة في المواسم والمناسبات».
1 ــ مسرحية مساجلة أدبية:
وهي أول مسرحية يمتزج فيها النثر بالشعر تُطبع باللغة العربية في الجزائر، وإذا كان للمسرحي الكبير علي سلالي الشهير بـ (علالو) السّبق في تأليف (جُحا) كأول نص مسرحي عربي بالجزائر عام 1926 دون طباعتها في ذلك الحين، فإنّ الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري قد حاز فضل السبق في تأليف وطباعة أول مسرحية باللغة العربية عام 1929.
وقد توزعت المسرحية على ثلاثة فصول، وضمت (38 صفحة) من القطع الصغير، وطبعت بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة لصاحبها العلامة عبد الحميد بن باديس والأديب الشهيد أحمد بوشمال في أوائل شهر رمضان 1347 هـ الموافق شهر فيفري 1929، بينما أرّخ لمقدّمتها بـ: الجزائر 20 شعبان 1347 هـ الموافق 01 فبراير 1929.
قال مؤلفها في تقديمه لها: «هذه مساجلة وضعتها للصغار الناشئين ليتدرّبوا بها على فن التمثيل تدريجيا. أسلوبها سهل ليس بالممتنع ولا بالوضيع» وهذا يوم كان الجزائريون حديثي عهد بالمسرح، كما لم يفته أن يهديها إلى كل من يحبّ لغة الضاد ويسعى لخيرها، بعدما ظُلمت في عقر دارها وهُمّشت بين أهلها في ذلك الزمن الفرنسي المتردّي ، بقوله: «ويسرّني أن أهديها لكل ناشئ على لغتنا العربية العزيزة وإلى كل من يهمّه شأن هاته اللغة الخالدة، ولا أسأل عليها من أجـر إن أجـري إلا على إخلاصي في عملي للغتي وأمّتي والسلام»
ومن خلال قراءة متأنيّة لمحتوى هذه المسرحية نستشف سيطرة الجانب التهذيبي والتربوي السلوكي على مراحل فصولها وما تخللته من نصوص شعرية جادت بها قريحة الأديب الهادي السنوسي، ومقاطع نثرية أخرى، تجسّدت بواسطة مساجلة حوارية بين أصدقاء ورفاق تدور بينهم مجموعة من الأحداث المتتالية، وقد أعطاهم المؤلف صفات توحي بغرضه من هذه المسرحية، لاسيما في تلك الفترة من تاريخ الجزائر في ظل الاحتلال والاستعباد الفرنسي، حيث انحصر التعليم بين المستوطنين وبعض المحظوظين من أبناء الجزائريين، وتراجعت المبادئ والقيم والأخلاق المتجذرة في أعماق المجتمع الجزائري، بانتشار الفساد والخلاعة والميوعة، التي قنّنت لها إدارة الاحتلال وشجّعت على انتشارها في نطاق واسع.
وقد اختار الكاتب عدة أوصاف لهؤلاء الرفاق لذات الغرض، على غرار:(كسول، أديب، خبير، مجمع، شاعر، رئيس، ظريف، عازم، حكيم، رائد، نبيه، كاتب، موزع البريد ..) وكلها تحمل علامات فارقة وإيحاءات مختارة بعناية ومرامي يطّلع عليها أكثر قارئ هذه المسرحية، أو كل من يشاهدها على الرّكح، مع ضرورة قراءتها بتؤدة، بعد وضعها في سياقها التاريخي واستحضار الظروف التي كُتبت أثناءها، حتى لا نحمّلها ما لا تطيق.
إلا أن صوت المرأة وأدائها في هذا الإنتاج المسرحي الأول من نوعه قد تأخّر إلى الفصل الثالث من المسرحية، دون أن يغيب، وهذا للدور الفعّال لها ولمحوريتها في كل عملية تغيير اجتماعي، من خلال دوري (سعاد ومَيْ) ولعلّ اعتماد المؤلف على تأجيل أدائها إلى هذا الفصل يعود إلى طابع تحفّظ المجتمع الجزائري وقتئذ، والذي لم يكن يسمح للمرأة بالظهور على خشبة المسرح إلا نادرا، لذلك يؤكد النقاد ومؤرّخو الفن الدرامي بالجزائر، أن من أكبر العوائق التي كانت تعترض سبيل الفرق والجمعيات المسرحية في ذاك الزمن مشكلة المرأة، ورفض ظهورها على الخشبة وصعوبة العثور عليها لأداء أدوار مسرحية لا يجيدها غيرها، مما يضطر القائمين على شؤون المسرح في الغالب الأعم إلى اعتماد تقمص دور المرأة من قبل بعض الممثلين الرجال والاستنجاد بهم لسدّ الفراغ!
كما أنّ فصول المسرحية الثلاثة تضمنت عديد الألفاظ التي كان الشعب الجزائري يرنو إليها عمليا، في ظل الليل الحالك للاحتلال، لذلك فقد انتقى المؤلف ألفاظه بعناية فائقة لدلالتها ورمزيتها، مثل: (الإسلام، الآداب، العدل، الشمس، الحرية، الحياة، العزّة، البلاد، الموطن، الوطن، حسن الجوار، الجزائر، عزّة النفس، الشرف، الرجال، السلام، الأصدقاء، النفس، الشخصية، النظام، الرياضة، الجد، العمل ، جمع الشمل، العزم، الثبـات، السيوف، التـاريخ، الوئـام، العـزيز، اللغة، الدين، الجـنسية، النهضة، الأمة ..).
وبمقابل ذلك احتوت هذه المساجلة مجموعة من الألفاظ التي كان الجزائريون (الأهالي ــ الأنديجينا كما كان يطلق عليهم الغزاة الفرنسيون) يمقتونها ويتطلعون إلى يوم تختفي فيه من مجتمعهم وتزول من مخيّلتهم المهترئة وواقعهم المرير في الزمن الكولونيالي المتعفّن، وقد تداولها أبطال المسرحية وحذروا من أخطارها ووجودها وبقاء سريانها في مجتمع يتوّق إلى الحرية والإنعتاق والنور، ومن ذلك: (الظلم، الذّل، المذلة، الغربة، اليأس، القنوط، الآلام، الهوان، الجهل، الأحزان ..) ولم نهتد في بحثنا إن كان هذا النص المسرحي قد تمّ تطويعه وتمثيله في تلك الفترة أو بعدها أم لا.
ولأن هذه المسرحية لم تُعد طباعتها منذ أن أشرف مؤلفها على ذلك بنفسه عام 1929 إلى اليوم ــ حسب ما اهتديتُ إليه ــ فقد حرصتُ على إدراجها ضمن ملحق كتابي المخطوط (المسرح ببسكرة .. رحلة في الذاكرة)، إسهاما منّي في التعريف ونشر جزء من التراث الثقافي للأمة.
2 ــ الشباب الناهض :
مسرحية تربوية أخلاقية، غير مطبوعة وتعدّ من مفقودات الأديب الكبير محمد الهادي السنوسي، ولم نعلم بأمرها إلا من خلال تغطية جريدة (البصائر) في عددها 17 الصادر في 1 ماي 1936، التي جاء فيها أنّ تلامذة مدرسة الجمعية الخيرية ببسكرة قد أدّوا هذه المسرحية خلال هذه السنة، حيث كتبت: «مساء الجمعة 17 أفريل أقام تلاميذ مدرسة الجمعية الخيرية احتفالا باهرا بالمسرح البلدي مثّلوا فيه رواية علمية أدبية أخلاقية وهي رواية (الشباب الناهض) لصاحبها الأستاذ الهادي السنوسي».
وحسب المراسل ــ الذي رمز لاسمه بـ (مراسلكم) ــ فإن الحفلة افتتحت بكلمة للأديب محمد الصادق لوّام والأستاذ السعيد بن الطاهر الزياني (سروطة) المعلم بالمدرسة، وبعد تلاوة آيات من القرآن الكريم أنشد البنات نشيد (نحن أطفال صغار .. في نشاط كالكبار)، ثم أدّى الجميع نشيدا علميا بحماس، بعدها شرع التلامذة في تمثيل رواية (الشباب الناهض) بأسلوب عجيب، وقاموا بأدوارهم أحسن قيام فأثّروا في الحاضرين تأثيرا بليغا حتى ملكوا عليهم مشاعرهم وحواسهم.
وقـد أثنى الـمراسل فـي ختام تغطيته للحفل على مدير المسرح ببسكرة (م ــ حيون) الإسرائيلي (اليهودي)، لما أبداه من مساعدة للجمعية، حيث لم يأخذ منها ولو فرنكا واحدا في مقابل هذا الاحتفال، ولم يوجّه إليه عبارات الشكر والثناء فحسب، بل دعـا لـه قـائلا: «فجزاه الله بما يجازي أمثاله من المحسنين».
وللأسف أن هذا النص المسرحي لم أعثر عليه، بالرغم من بحثي الحثيث عنه، لاسيما لدى بعض أقاربه ببسكرة.