الاستقلال انتزعناه بالدم وعلى الشباب الوفاء لوصية الشهيد
ما تزال ذاكرة المجاهد الرمز “عمي أحمد” أحد مفجري وقادة الثورة المجيدة بمنطقة الأوراس المكافحة، تحتفظ بالكثير من الأسرار والذكريات حول تاريخ حرب التحرير الوطني، وذلك على الرغم من المرض وعمره المتقدم الذي ناهز التسعين سنة.
يعتبر البطل أحمد قادة من مجاهدي الرعيل الأول لثورة 1954، وهو بحسب بعض الوثائق الفرنسية من الأبطال الـ16 الخارجين عن القانون الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي، ويؤكد المجاهد في لقاء خاص مع جريدة “الشعب” رفقة جمعية البركة لمساندة الأشخاص المعاقين بمنزله المتواجد بمدخل مدينة تازولت، للاطمئنان عليه أنه بدأ مساره النضالي في سن مبكرة جدا، وذلك سنة 1946 وهو لم يتجاوز الـ13 من عمره، مشيرا في شهادته إلى أنه ثار ضد القوانين الاستعمارية الجائرة التي جعلت من الجزائريين عبيدا للمعمّرين بعد أن سلبتهم أراضيهم وحقوقهم، غير أن فرنسا الاستعمارية لم تستطع أن تسلب الجزائريين كرامتهم، على حدّ تعبيره.
ويضيف عمي أحمد، أنه كان يكتب رسائل إلى الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد، فبلغ مسامع الإدارة الفرنسية ذلك، فألقت القبض عليه سنة 1947، وتمّ سجنه بأريس رفقة 10 آخرين، بحيث تمّ تعذيبه بأبشع الطرق رغم صغر سنّه، ليتم إخلاء سبيله بعد إنكاره لكل التهم الموّجهة إليه، وبعدها كلّفه الحاكم الفرنسي بالتجسّس لصالحهم ونقل كل ما يجري بالمنطقة، من أحداث وتحركات، قائلا: “إقتنيت سلاحا ناريا من بسكرة بعد بيعي لقطعة أرض هي ملك لي، والتحقت بعدها مباشرة بالجبل، وقرّرت وقتها محاربة العدو بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة وإرادة وبدأت اكتشف بعدها معنى النصر أو الاستشهاد”.
اجتماع لقرين التاريخي المحطة الحاسمة في تفجير الثورة
يواصل عمي أحمد وهو على فراش المرض سرد تفاصيل نضاله بدقة متناهية وكأنه ما يزال يعيشها إلى اليوم، حيث عاد للحديث عن اجتماع لقرين التاريخي بمنطقة دوفانة أو بولفرايس، والمعروفة حاليا ببلدية أولاد فاضل بولاية باتنة والذي يعتبر من بين أواخر المجاهدين الأحياء الذين عايشوا هذا الاجتماع، الذي انعقد في آخر أسبوع من أكتوبر 1954، والذي يعتبره المحطة الحاسمة في التعجيل باندلاع ثورة نوفمبر المجيدة.
وفصل ضيف جريدة “الشعب” المجاهد الكبير أحمد قادة في ذلك بالقول: “إن أهمية اجتماع لقرين التاريخي تنبع من تمكّن أسد الثورة بن بوالعيد مصطفى، من عقده رغم الظروف الصعبة التي أحاطت به”، مشيرا إلى أنه عقد يومي 26 و27 أكتوبر ليلا بمنزل المناضل عبد الله بن مسعودة المعروف باسم “أمزيطي”، وانطلقت أشغاله بعد تأدية “اليمين والقسم” على المصحف بالوفاء للجزائر والثورة، والالتزام بدعم الثورة وعدم إفشاء أسرارها مهما كان الثمن بحضور أبطال الثورة الآتية أسماؤهم: عباس لغرور، الطاهر نويشي، عاجل عجول، مصطفى بوستة، موسى حاجي، محمد خيضر، حسين بالرحايل، شيحاني بشير، عثماني عبد الوهاب وعبد الله بن مسعودة صاحب المنزل، حيث تمّ صياغة بيان أول نوفمبر التاريخي، والذي كتبه البطل شيحاني بشير بخط اليد ثم بالآلة الكاتبة وباللغة الفرنسية بطلب من بن بوالعيد، وقام عمي أحمد بتوزيعه.
وأشار المجاهد قادة إلى أن، بن بوالعيد فصل نهائيا في موضوع تفجير الثورة بعد أن أخبر المجتمعين بتاريخها الذي حدّده في الفاتح من نوفمبر 1954 من الأوراس، وقد جرى اجتماع لقرين وسط إجراءات أمنية مشدّدة تضم 200 مناضل.
أوضح عمي أحمد أنه تمّ تحديد الأهداف التي سيتم ضربها للإعلان عن اندلاع الثورة وتقسيم أفواجها خلال هذا الاجتماع، حيث كلفه بن بوالعيد رفقة المجاهد حسين بالرحايل بالإشراف على خمس أفواج بولاية بسكرة.
في سؤال لـ«الشعب” حول هوية لصوص الشرف أو الخارجين عن القانون بالمفهوم الفرنسي، فأكد عمي أحمد أن كل من قرين بلقاسم، بلكحل محمد، حسوني رمضان، درنوني علي، بن سالم محمد الصالح، لخضر بن قدور، المسعود معاش، عايسي المكي، المسعود بن زلماط، شبشوب الصادق، وصاف الصالح، بن سالم محمد بن عمر، المسعود مختاري، بن عبد الله الهادي الوردي، وهؤلاء هم من عجلوا بالثورة، حيث كانوا الذراع الأيمن للشهيد البطل مصطفى بن بولعيد، يضيف المتحدث.
تأسف عمي أحمد التهميش الكبير الذي طال “لصوص الشرف “منذ الاستقلال لأسباب مجهولة رغم أنهم (الخارجين عن القانون في نظر الإدارة الاستعمارية)، وـ حسبه ـ فإن فرنسا خصّصت لهم مقررا مدرسيا تحذر التلاميذ الفرنسيين منهم في المدارس وتشوّه سمعتهم، ويضيف عمي احمد المجاهد الوحيد الباقي من أبطال ما يعرف بـ«المعتصمين بالجبل” بخصوص تفجير الثورة أن 42 مجاهدا، قام حسين برحايل بتدريبهم وتقسيمهم إلى خمس أفواج كل فوج مكلف بالقيام بهجوم على محطة القطار، ودار البريد وكذا دار الشرطة والثكنة العسكرية “سانت جيرمان” وأخيرا محطة الكهرباء.
وبعدها مباشرة حكمت السلطات الفرنسية عليهم بالإعدام، ليواصلوا نشاطهم الثوري تحت حراسة بعضهم البعض، والتحرك بأسماء مستعارة يلقنها لهم الرائد الشهيد مسعود بن عيسي، قائلا، إنه ما يزال يتذكّر بعض تلك الأسماء على غرار عبد الحفيظ بوصوف المكنى بسي المبروك، تحت إمرة الشهيد شبشوب الصادق إضافة إلى عمار بن عودة وزيغود يوسف تحت قيادة الرائد مصطفى بوستة.
وعن علاقته بالشهيد الرمز مصطفى بن بوالعيد، قال عمي أحمد أنه كلف من طرف بن بولعيد أشهرا قبل استشهاده بتنسيق الاتصالات مع منطقة القبائل، وهو ما حدث حيث توجّه إليه رفقة رعايلي ولعموري للإلتقاء بكريم بلقاسم، بحيث مكثوا مدة أسبوعين، بمناطق ڤنزات وبن يعلى وسوق الجمعة وقلعة بني عباس، لكن لم ينجحوا في لقاءه لأن معاونيه أخبروهم أنه في مهمة، والحقيقة أنه لم يرغب في استقبالهم ـ حسب ـ ما أخبرهم الشهيد العقيد عميروش، لأسباب مجهولة، يضيف محدثنا.
وحسب المجاهد قادة فإنه، خلال تواجدهم بمنطقة القبائل حدثت مشكلة حينما اعتقل عناصر من رجال كريم بلقاسم لعموري وجردوه من سلاحه فتدخلوا للإفراج عنه، ليعود إلى الأوراس وباتنة، أين صعقوا بخبر استشهاد بن بولعيد بالمذياع الملغوم في اليوم الموالي لعودتهم، قائلا: “كانت صدمتنا كبيرة وجراحنا عظيمة، وخوفنا كبير على مسار الثورة ومخاطر تسلل الخونة إليها لنواصل الثورة بعزيمة بن بوالعيد وحنكته”، مشيرا إلى أنه أشهر قليلة بعد استشهاد بن بولعيد انعقد مؤتمر الصومام، بحيث عرفوا سبب رفض كريم بلقاسم استقبالهم والذي يرجع لانشغاله بالتحضير للمؤتمر وأن الجماعة كانت تحضر للأمر الذي كان له تداعيات كبيرة على الثورة.
وحرص عمي أحمد خلال لقائنا به، على التأكد على أن جيش التحرير بمنطقة الأوراس تعرض لظلم كبير وتهميش كون بعض المجاهدين الحقيقيين المفجرين للثورة والمشكلين للرعيل الأول على غرار لخضر كيور، وجرموني، وعمر العقون وبيوش، لم ينصفهم المؤرخون، إضافة إلى نقص تدوين بعض تفاصيل الثورة بالأوراس خاصة رغم أهميتها الكبيرة.
نتأسف للتضارب في تقديم الشهادات التاريخية
بالمقابل انتقد التضارب والتناقض والنرجسية وتعظيم الأنا وطغيانها، على بعض الشهادات التاريخية لبعض المجاهدين والرموز الثورية من خلال مذكراتهم، خاصة ما تعلّق بسردهم لبعض مجريات المعارك، والمدة التي استغرقتها والمجاهدين المشاركين فيها وحصيلتها سواء من الشهداء، وكذا القتلى في صفوف المستعمر الفرنسي بما في ذلك الغموض الذي ما يزال يكتنف قضية استشهاد أسد الجزائر مصطفى بن بولعيد.
والحقيقة يضيف عمي أحمد أنني اطلعت على بعض الشهادات لبعض المجاهدين، ووجدت أنهم رغم دورهم الكبير في الثورة وحقيقة أنهم فعلا مجاهدون أبطال ورموز ثورية وجدتهم يتحدثون عن معارك لم يشاركوا فيها، وكذا الخلط المسجل في وجود أشخاص لم يشاركوا في الثورة، وأصبح يطلق عليهم اسم مجاهد بعد الاستقلال بل هناك من الحركى والقومية من خذل الثورة وينعم بخيرات الاستقلال، على حدّ قوله.
ورغم ثقل السينين ما يزال يتذكّر صاحب الشعر الأبيض، عمي أحمد جيدا جرائم الاستعمار الفرنسي ويرفض التنازل عنها أو تقادمها، ويصرّ على ضرورة تجريمه والاعتذار والتعويض والاعتراف ببشاعة الجرائم ليسجل التاريخ الإنساني ذلك، معبّرا عن أسفه وحسرته لتعنت فرنسا وتأخرها في تقديم اعتذارها للشعب الجزائري، داعيا جيل اليوم إلى مواصلة النضال لإفتكاك حقوق جيل الثورة والحفاظ على رسالة الشهداء ببناء الجزائر، والحفاظ على أمنها وعزتها وتفويت الفرص على الأعداء والمتربصين بها، خاصة في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم تكالبا غير مسبوق على سيادة الدول ونهب خيراتها.
ونذكر أن المجاهد أحمد قادة كان قد تعرض العام الماضي لوعكة صحية خطيرة، خضع لعلاج مكثف بعد إجرائه لعمليتين جراحتين، على مستوى الدماغ، ويعتبر من الشخصيات الوفية لبرنامج رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، وهو من مؤسسي التنسيقية الوطنية للجمعيات المساندة لبرنامج رئيس الجمهورية.