هناك الكثير من المحطات التاريخية الهامة من ذاكرة أمتنا المجيدة، منسية أو مغيبة لا يعرفها جيل اليوم، ولابد من تسليط الضوء عليها منها تاريخ 14 جويلية 1953 الذي شهد استشهاد سبعة جزائريين بالمهجر، منهم ستة مناضلين على يد الشرطة الفرنسية بأمر من السّفاح موريس بابون الشهير بسلسلة من الجرائم التي ارتكبهافي حق الجزائريين إبان الحقبة الاستعمارية. بحسب ما أفاد به المجاهد وعضو فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا محمد غفير، المدعو موح كليشي.
المجاهد غفير وككل مرة يزودنا بمعلومات عن محطات تاريخية نجهلها، وعيا منه بأهمية كتابة وتلقين التاريخ لشباب اليوم لبناء مستقبل الأمة وهذا وفاء لرسالة الشهداء الابرار الذين أوصوا بنقل رسالتهم للأجيال كي تبقى خالدة، وبأنه كان مشاركا في ثورة التحرير باعتباره مناضلا بمقاطعة كليشي بفرنسا، دفعته وطنيته وحرصه الشديد للمحافظة على انجازات الثورة للتذكير ببطولات الأجداد وما صنعه رفقاء الدرب. يقول موح كليشي أن تاريخ 14 جويلية 1953 مهم، كونه جعل مسؤولي قيادة الثورة يفكرون بجدية في التحضير للكفاح المسلح لطرد العدو، وبطبيعة الحال مجازر الثامن ماي 1945 كان لها الدافع الكبير لإنشاء المنظمة الخاصة، مضيفا أن الفرنسيين يحتفلون سنويا بهذا التاريخ الذي يعني بالنسبة لهم عيد النصر.
أوضح المجاهد غفير، أن في يوم 14 جويلية 1953 أرسل مسؤولو فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا وهما محمد بوضياف وديدوش مراد، اللذان هربا من الجزائر سنة 1952 بعد اكتشاف المنظمة الخاصة وإلقاء القبض على مناضليها، مئات المناضلين في الحركة الوطنية بالمهجر للوقوف في ساحة الأمم ورفع الأعلام الوطنية واللافتات تحمل شعارات تطالب باستقلال الجزائر، مع صورة زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج. بالفعل نزل الجزائريون للمطالبة باستقلال الجزائر، بحيث طاردتهم الشرطة الفرنسية وأرادت نزع الأعلام لكن المناضلين قاوموا، فأمر السفاح موريس بابون رئيس الشرطة الفرنسية بإطلاق النار على المتظاهرين، مما أسفر عن استشهاد ستة مناضلين والسابع كان فرنسيا يدعم القضية الجزائرية.
تحدث المؤرخ بنجاما ستورا في كتابه، عن هذه الحادثة قائلا أن المظاهرات تحولت إلى مأساة بعد إطلاق النار على المتظاهرين الجزائريين، فاستشهد ستة جزائريين و45 جريحا، بحيث حضر جنازة هؤلاء المناضلين في 22 جويلية من نفس السنة 20 ألف شخص لتشييعهم وإلقاء النظرة الأخيرة عليهم، وقد نقلت رفاتهم إلى الجزائر وتم دفن كل واحد في ولايته، وهم عبد القادر دراري 32 سنة من تلمسان، العربي داود 27 سنة من عين الصفراء، عبد الله باشا 25 سنة من أقبو بالقبائل، طاهر ماجي 26 سنة قنزات بسطيف، موحود إيلول 20 سنة من وادي أميزور الصومام، عمار تجادي 26 سنة من قرية فليسة، موريس لورو 41 سنة فرنسا، كلهم استشهدوا من أجل استقلال الجزائر .
إصدار جديد لتخليد ذكرى الشهداء الستة
تخليدا لذكرى هؤلاء الشهداء الستة، قام الكاتب والسينمائي «دانيال كوبفرستن» بانجاز فيلم وثائقي مدته 90 دقيقة، بعنوان» رصاصات 14 جويلية 1953»، يتحدث عن ما وقع في مثل هذا اليوم ، بحيث ذهب الى المستشفيات الفرنسية أين نقل القتلى لمعرفة طريقة وفاتهم، كما تنقل الى منطقتهم واستمع لشهادات من بقوا على قيد الحياة من عائلاتهم، وهذا بعد حصوله على تأشيرة سنة 2012 لمدة ستة أشهر من طرف القنصلية الجزائرية بفرنسا وبمساعدة موح كليشي، بعدما سلمته القنصلية الجزائرية تأشيرة لمدة 15 يوما وهي لا تكفي لإعداد شريط وثائقي في مستوى تضحيات الشهداء.
هنا يقول المجاهد غفير: «دافعت عن تاريخنا كي لا يبقى مغيبا وتعرف الأجيال مدى تضحيات الأسلاف، 1 نوفمبر 1954 لم يأت اعتباطا»، مضيفا أن الفيلم تم عرضه سنة 2013 لأول مرة بفرنسا وهو انجاز في المستوى أبهر الفرنسيين الذين لم يسمعوا بهذا التاريخ، كما عرض بقاعة الموقار بالجزائر لكن لحد الآن لم يعاد عرضه. بالمقابل أصدر المؤرخ دانيال كتابا، عن هذا الحدث سيقوم بتقديمه في 6 جويلية الجاري، بحضور موح كليشي كضيف شرف، باعتباره مواطن بلدية كليشي وعضو سابق في فيدرالية جبهة التحرير الوطني، وبهذه المناسبة ستعلق لافتة بساحة الأمم تحمل أسماء الجزائريين الستة الذين استشهدوا على يد شرطة السفاح موريس بابون تخليدا لهم.
وجه غفير رسالة لشباب اليوم، على ضرورة البحث عن التاريخ لأنه ذاكرة الأمم ، مطالبا المجاهدين بتقديم الحقائق وشهاداتهم عما عايشوه إبان حرب التحرير الوطني بكل موضوعية، واجتناب المخاطبة بضمير «الأنا» لأن الثورة كانت جماعية بمساعدة الشعب، قائلا: «تحدثت مع الأمين العام لمنظمة المجاهدين سعيد عبادو بحث المجاهدين على إعطاء شهاداتهم لأن تاريخنا كتبه المؤرخون الفرنسيون».
أشار عضو فيدرالية جبهة التحرير الوطني، في هذا الشأن الى أن المؤرخين الجزائريين يجدون صعوبة في كتابة التاريخ لعدم وجود الأرشيف المتمثل في شهادات المجاهدين الذين يرفضون الإدلاء به، وأحيانا يقدمونها بشكل مبعثر، همهم فقط التفكير في نسبة الزيادة في المنح، وحسبه فإن شعب بدون ذاكرة هو شعب دون مستقبل، وأنه لا يمكن مواجهة التحديات اذا لم يتسلح شباب اليوم بالتاريخ ويعرف تضحيات الأجداد الذين ماتوا من أجل الجزائر، للمضي قدما في بناء وطنه، عوض التفكير في الهجرة الى ما وراء البحار.
19 مارس 1962 ...التاريخ الحقيقي للاستقلال
عن عيد الاستقلال الذي تفصلنا عنه ثلاثة أيام، أكد المجاهد غفير أن التاريخ الحقيقي للاستقلال هو 3 جويلية وليس 5 جويلية، وهذا استنادا لمراسلة الجنرال ديغول لعبد الرحمان فارس لتهنئته بالاستقلال في 3 جويلية 1962، وكان فارس في نفس اليوم، مشيرا الى أن سعد دحلب قال أن تحريف تاريخنا بدأ بـ 5 جويلية.
بحسب موح كليشي، فإن 19 مارس 1962 أي عيد النصر هو التاريخ الحقيقي لاستقلال الجزائر الرسمي بالنسبة له، معلّلا ذلك بأن 1 نوفمبر 1954 أشعل فتيل الثورة ووقف إطلاق النار أطفأته اتفاقيات ايفيان، متسائلا لماذا انتظرنا أربعة أشهر للاحتفال بعيد الاستقلال، وفي سرده للأحداث التاريخية قال غفير أن ديغول قام بالاستفتاء للشعب الفرنسي في 8 أفريل 1962 لمعرفة رأيه حول الاستقلال وكان الجواب نعم بنسبة 88 بالمائة، لكنه لم يعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وبالنسبة للجزائريين فقد نظم الاستفتاء في 1 جويلية وأعلن عن النتائج في اليوم الموالي، و3 جويلية عيد الاستقلال الرسمي، كما أنه كان أحد المسؤولين لمراقبة مكاتب إجراء الاستفتاء بفرنسا، بحيث سجلت نسبة 95 بالمائة من التصويت بنعم للاستقلال. يضيف موح كليشي، أن تاريخ 5 جويلية هو نقطة سوداء في التاريخ كون الداي حسين أمضى اتفاقية تسليم الجزائر للاحتلال الفرنسي، وبحسبه فإن هذا التاريخ تمت تغطيته بإقراره يوم استقلال الجزائر، قائلا: «التاريخ هو تاريخ يجب إعطاءه كما هو دون تحريف».
عن أجواء الاحتفال بهذا النصر الكبير للجزائريين بعد أكثر من 132 سنة من الاحتلال والبطش والتقتيل والتنكيل، بأرض العدو قال غفير أن الفرحة كانت كبيرة، بحيث نظمت في قاعات بلديات فرنسا احتفالات شهدت تحضير كل أنواع الطعام وبحسب مناطق الجزائر من الكسكسي والشربة والحريرة أي من الشرق الى الغرب الى الجنوب والشمال، وقد جاء جزائريون الى فرنسا لحضور تلك الاحتفالات، بمن فيهم كريم بلقاسم الذي أبى إلا أن يقاسم جاليتنا بالمهجر فرحة الاستقلال، عرفانا بما قدموه من دعم للثورة.
يشير غفير في معرض حديثه الى أن المهاجرين الجزائريين هم أول من سمع بخبر الاستقلال، كون المفاوضات جرت في منطقة ايفيان أين يتواجد عدد كبير من جاليتنا، واختتم حديثه برسالة ديدوش مراد الخالدة قبل استشهاده بدقائق، وهي :»إذا قدر لنا الاستشهاد فلا شك أن من يبقى وراءنا سيعمل على تخليد مشاعرنا الثورية، ونقلها للأجيال الصاعدة، سنخوض بعد لحظات معركة الشرف والاستشهاد، لكي نعطي الدليل القاطع لعدونا بأننا مؤهلون لتحرير وطننا وشعبنا ما دمنا مستعدين للتضحيات»، داعيا للعمل بهذه المقولة، وللمدرسة دور في غرس القيم النوفمبرية لدى شبابنا الجاهل بتاريخه.