«الحمد لله أنّني أكتبه على الورق ولا أتلفّظ به؛ لأنّك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا من هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى». وردّ جبران عليها بقوله: «الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم». لكن علاقة الحب الفريدة التي كانت تجمع مي بجبران انتهت بوفاة جبران عام 1931 وإلى غاية هذه السنة كان ما يزال حضور الأديبة الرقيقة قويا في قلوب محبيها العظماء في الاوساط الثقافية العربية، فكان عباس محمود العقاد الذي أحب مي بكبرياء وأذعن رويدا رويدا لعاطفة الحب التي كانت تتملكه تجاها غيورا من العلاقة بين جبران ومي، لكن يبدو أن مي كانت تروقها كل تلك العواطف التي كانت تأتيها من كل حدب وصوب فكتبت يوما الى القعاد تقول له: «لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره الا في تلك الصور التي تنشرها الصحف. ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها، أليس كذلك؟ معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورا بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتع بها وجداني». في سنة 1931 انطفأت شعلة الحب المتوقدة التي دامت قرابة العشرين سنة وذلك بوفاة جبران في العاشر من أفريل، وقبله ببضعة أشهر توفي والدها بعد مرض عضال موجع ومؤلم، وبعد سنة من ذلك 1932 توفت والدتها وكانت هذه المعطيات محطة حاسمة في تاريخ مي كله فتكالبت عليها صنوف الدهر وغلبتها الايام وانفض من حولها الكثيرون فشكلت هذه المحطة بالنسبة اليها فاجعة رهيبة فعادت الى لبنان وهنا كانت المؤامرة والدسيسة المؤسفة التي خطط لها بعض من افراد اسرتها من اجل الانقضاض على تركة والدها، ونتيجة للحالة النفسية التي كانت فيها ادخلت -عنوة وقهرا- الى مستشفى العصفورية للامراض العقلية ولاحقا بعد خروجها ثبت أنها لم تكن تعاني الا من حالة نفسية ضيقة وطبيعية وكتبت على الجحيم الذي لاقته في العصفورية قائلة: «باسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا... موت لا أظن أن إنسانا يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه، ومع ذلك كان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون الي بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثا أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية». لقد تحطمت مي وانتهت بعد سنوات من النضال لأجل الحرية والانسانية حبيسة ومهجورة من اسرتها ومن الاوساط الادبية والثقافية التي كانت علما من اعلامها، وكان هذا الفعل شنيعا وفظيعا وغاية في القسوة، لقد كان عملا غير انسانيا وفي ذلك كتبت تعبر عن فاجعتها قائلة: «أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة المثالية التي حييتها جلعتني أجهل ما في البشر من دسائس، أجل كنت أجهل الدسيسة وتلك النعومة التي يظهر بها بعض الناس ويخبؤون السم القتال». وانطفأت شعلة الأدب العربي مي زيادة في في التاسع عشر من أكتوبر عام 1941، في مستشفى المعادي بالقاهرة ولم يمش في جنازتها -برغم شهرتها- الا ثلاثة من الأوفياء وهم: لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل. وغاب عنها عظماء الادب والفكر هؤلاء الذين قرأنا أدبهم وفكرهم وتهذبت به ارواحنا وأذواقنا الى مزيد من الانسانية الطيبة والرحيمة بخسوا حق مي زيادة عليهم وفتحوا على انفسهم الباب واسعا اما الادانة باسم الاخلاق والانسانية.