لا يمكن أن نتطرق إلى الرواية التاريخية، والتوظيف الأدبي لمادّة الماضي، دون التنويه بالكمّ الهائل من الدراسات والأعمال التي تصدّت إلى هذا النوع من الكتابة بالبحث والتدقيق. من هذه الأعمال نذكر ما قدّمه جورج لوكاش، التي قابل بين التطور التاريخي والإيديولوجي للأمم، والتطور الأدبي الذي رافقه أو أسهم فيه. كما نستذكر قامات أدبية; إن في الساحة الجزائرية، أو العربية والعالمية، وجدت في التاريخ ضالتها ووظفته في استقراء الحاضر والمستقبل.
في كتابه «الرواية التاريخية»، يطرح جورج لوكاش العديد من التساؤلات، منها كيف تسهم الرواية في استجلاء ما حدث في التاريخ؟ وهل الروائي قادر على إعادة تركيب الماضي المتناثر؟ وأين يكمن الفارق بين روائييْن يستخدمان ذات الموضوع التاريخي وتتألق رواية أحدهما فيما تفشل الأخرى؟
كما يتساءل لوكاش: ماذا يريد الروائي بعمله التاريخي؟ وكيف يخدم أهداف الحاضر عبر تمثّل الماضي؟ وهل يراد بالرواية التاريخية أن تكون مهربا من الحاضر إلى الماضي أو أن تقلب الحاضر إلى الماضي؟
وفي تطرقه إلى الظروف الاجتماعية والتاريخية لنشوء الرواية التاريخية الكلاسيكية، يقول لوكاش; إن معضلة عكس العصور الماضية فنيا لم تبرز كمعضلة رئيسة في الأدب إلا أثناء المرحلة الأخيرة من الحركة التنويرية. يعتبر مثلا أن مسرحية غوته «غوتز فون بيرليشينغن» مجرد ازدهار جديد في الدراما التاريخية، بل «تمارس أيضا تأثيرا مباشرا وقويا في نشوء الرواية التاريخية في أعمال وولتر سكوت».
كما يعتبر لوكاش أن الثورة الفرنسية جعلت من التاريخ تجربة جماهيرية على نطاق أوروبي، كما لعب توسّع الحرب الكمي الهائل دورا جديدا من الناحية النوعية، وصارت الحرب أيضا تجربة جماهيرية. كل هذا، يقول لوكاش، يمكّن من تفسير الإمكانات المحسوسة المتاحة للناس ليستوعبوا وجودهم بوصفه شيئا مكيفا تأريخيا، وليروا في التاريخ شيئا يؤثر بعمق في حياتهم اليومية ويعنيهم على نحو مباشر». ويخلص إلى وجود إمكانات لتطور الاتجاه الإنساني الجديد في الرواية التاريخية، حيث يرى بأن رواية العصر الحاضر التاريخية نشأت وهي تتطور في فجر ديمقراطية جديدة.
ولعلنا نلمس في هذا العمل للوكاش التركيز على التأثير المتبادل بين الرواية والإيديولوجيا، حيث يتحول العمل الإبداعي إلى صورة للأوضاع السابقة والآنية، واستشرافا للأوضاع المقبلة في القريب العاجل أو الآجل.
في كتابه «الرواية التاريخية في أدبنا الحديث»، يقسم د. حلمي محمد القاعود تجارب الرواية التاريخية إلى أقسام ثلاثة: رواية التعليم، ورواية النضج، ورواية الاستدعاء. ويعتبر مثلا أن القسم الأول، رواية التعليم، يشمل الرواية التي أدّت مهمتها في «مجال التثقيف العام وجذب المتعلمين إلى دائرة أوسع من المعرفة وفقه الحياة ماضيا وحاضرا مستقبلا». ولهذا الصنف توجهات ثلاثة هي رواية المعلومات التاريخية، على غرار رواية «فتح الأندلس أو طارق بن زياد» لجرجي زيدان، ورواية تعليم وصياغة الأسلوب، ورواية الترجمة الأدبية.
كمثال عن «رواية النضج» يتحدث صاحب الكتاب عن «أضلاع الصحراء» لإدوارد الخراط. أما رواية الاستدعاء، ويستشهد بأعمال نجيب محفوظ الذي «يكاد التاريخ يكون اللعبة الأدبية المفضلة» لديه.
من أمثلة الروائيين الجزائريين في الرواية التاريخية، نذكر الدكتور محمد مفلاح، الذي خاض تجربة توظيف التاريخ في الكتابة الروائية، ونجد هذا في روايته «شبح الكليدوني» التي تتطرق إلى المنفيين الجزائريين إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة، ويقول عنها مفلاح إنه ركز فيها على «متاعب أحد المنفيين بعد إخماد ثورة الشيخ الأزرق بلحاج المندلعة بمنطقة غليزان وضواحيه، انطلاقا من موضوع الاغتراب الذي يعيشه حفيد أحد المنفيين في هذا الزمن». يعتبر الروائي الجزائري محمد مفلاح أن «بعض النقّاد عملوا على تكريس نظرة أحادية مؤدلجة لفهم الأعمال الإبداعية، وذهب كثير من الروائيين ضحية لهذه النظرة، فغابت كثير من المراحل المهمة من التاريخ عن الأذهان».
بالمقابل، يرى صاحب «شعلة المايدة» بأنه، خلال السنوات القليلة من عمر دولتنا الحديثة، «ظهرت نصوص رائعة كان لها الصدى والتأثير لقدرتها على تجاوز كل المفاهيم والقوالب الجاهزة». كما يرى مفلاح، في واحد من حواراته، بأن «الرواية التاريخية مغامرة محفوفة بكل المخاطر حتى بالنسبة للروائي الذي له باع في البحث والدراسات التاريخية».
من خلال جميع هذه الأمثلة، نجد بأن الارتباط بين محيط الكاتب وبيئته، والتفاعلات والتحولات التي تختلج في مجتمعه، تؤثر بشكل مباشر في قراءته للتاريخ، وتضفي على ما يكتب شحنة عاطفية تخلو منها أعمال المؤرخين، وهو ما يذكّرنا فيما قاله لنا أمين الزاوي ذات مرّة: «الروائي يكتب تاريخ العاطفة».