طباعة هذه الصفحة

د - مسعود ناهلية يؤكّد على اختلاف معايشة الأحداث

الكتابة الأدبية فعل متخيّل مهم انفتحت مقتضياته على المرجع التّاريخي

المدية: م ــ أمين عباس

التّاريخ يحيل المتلقّي على الماضي والأديب يعالج الحاضر بمعطيات الأمس

اعتبر الدكتور مسعود ناهلية أنّ تعامل الكتابات الأدبية مع الأحداث التاريخية   وتحويلها إلى المتن السردي والروائي والشعري أحيانا يتجه من زاوية الوقائع التاريخية إما أن يعيشها الأديب، وإما أن يعايشها عن بعد، وإما تنتقل إليه عبر القصص والحكايات والخطابات المختلفة، مشيرا في هذا الصدد بأنه قبل أن تصبح أدبا شعرا كان أو نثرا، تمر عبر الذهن لتنتقل من المادة الخام إلى مادة فنية، وهي مرحلة حسبه اختمارية أشبه ما تكون بمصنع كيمياوي تتعاون فيه عدة عوامل، وتشترك في صناعة الإبداع الأدبي شعرا كان أو نثرا.
يرى ناهلية المختص في الدراسات النقدية والأدبية بأن الكتابة الأدبية باعتبارها فعلا مصنوعا ومقصودا تخضع لشروط فنية ومعرفية ليست في متناول ونصيب  كل الناس، فهي لا تصدر إلا من أشخاص مزودين بطاقات خاصة، تضمن لهم استمرارية الإبداع وإلا توقفت نبضات أقلامهم في بداية الطريق أو في مرحلة ما لغياب الشروط المذكورة، وحتى وإن استمروا فلن يحققوا التميز ولا يقدّمون للحياة أدبا متفردا يصمد أمام القراءات النقدية حتى لا نقول معاول النقد.
يشير محدثنا بأن الكتابة الأدبية - والرواية بالخصوص - هي فعل متخيل مهما انفتحت مقتضياتها على المرجع التاريخي، ولذلك فإن المجتمع الذي ينجزه المؤلف كثيرا ما يمتزج فيه التاريخي بالمتخيل، وتتجلى فيه الأحداث والشخصيات التاريخية في صورة ديناميكية على خلاف التاريخ ،لأن التاريخ يحيل المتلقي على الماضي، في حين أن الأديب يعالج الحاضر بمعطيات الماضي.
يعتقد ناهلية المهتم بأدب الطفل أيضا في هذا المقام بأن الشخصيات التاريخية يمكن أن تدخل إلى الفن الروائي إما بهويتها المرجعية التاريخية، مثلما نجده في القصص العربي القديم، حيث تحتفظ الشخصية بهويتها مثلما هو الأمر في سيرة عنترة، وإما بصفة شبه واقعية تحتفظ ببعض مرجعيتها مثلما فعل جرجي زيدان في رواياته التاريخية «المملوك الشّارد»، والمملوك هنا في الرواية هو محمد علي مؤسّس الدولة الخيدوية بمصر، مستطردا حديثه بأن الغائب عن الأذهان هو الروائي الذي له قانونه الخاص، يرتكز التخيل الذي يسمح له  بـ «تعذيب» الشخصية وإبعادها عن هويتها ليصنع بها عوالم جديدة يكسر بها أفق انتظار القارئ، فهذه الخلخلة في المرجعية التاريخية سواء في أزمنتها أو في فضاءاتها، أو في شخصياتها من شأنها أن تعمل على كسر الموضوعية التي هي ليست من مهام الأديب إلا في حدود ضيقة، كما أنه هنا يظهر اعتراض التاريخ المتسربل بالأخلاق، على الأديب أن يدوّن الوقائع التاريخية وفق ما تتطلبه أدبية النص.
حجم المعلومة وطبيعتها تختلف عن المعلومة التي يسوقها المؤرّخ
 واصل الدكتور ناهلية في هذه الإشكالية قائلا بأن الأديب ليس ملزما أن يكون مؤرخا، مهمته ملامسة المسكوت عنه، والمنسي، والهارب، ومن جهة أخرى يمكن اعتباره مؤرخا عبر الفن، غير أن حجم المعلومة وطبيعتها تختلف عن المعلومة التي يسوقها المؤرخ، فهو - أي الأديب - يركز على مدى شعريتها وقدرتها على الإمتاع والإدهاش بدل الإفادة والتبليغ، مختتما رؤيته وتحليله الموضوعي لهذه الإشكالية، فليس من الفن أن يستنسخ الأديب الواقع التاريخي، ويقدمه للقراء عاريا من شعرية الخلق والإبداع، فهو هنا لم يزد عن كونه كرّر ذلك الواقع في بنية نصية جديدة بل يقتضي منه الفن معاينة الواقع وفحصه، ثم إدخال تلك العناصر في ذهن المبدع الروائي لتتلون وتمتزج في «تفاعل ذهني» حتى تأخذ منحى فنيا، تكون قد ساهمت فيها عدة عوامل مثل الموهبة والخبرة والخيال والدربة والمشاهدات العينية والملتقطة بالأذن والمسترجعة بالذاكرة من اللاشعور، لتخرج معبّرة عن ذوق الكاتب وميوله ومذهبه الفكري والفني وتوجهه الأيديولوجي، وعن مكره السردي، فمتى نجح الروائي في المكر الفني يكون قد أكسب الشخصية المرجعية بعدا رمزيا وشعريا لم يتحقق لها في موطنها الأول قبل أن تهاجر إلى الأدب.