أي قارئ قرأ أعمال مالك بن نبي ودقّق فيها يستنتج بأن الرجل جاء بأطروحات مذهلة...تتوافق في المقام الأول مع المنهج الاسلامي ..كيف لا وهو من كان شديد الصلة بمشايخ الاصلاح أولهم عبد الحميد بن باديس قدر ما كان ميالا بكثير لجمعية العلماء. أشهر مقولة قالها آنذاك حين سافر لباريس عام ١٩٥٢، وأغرب حادثة عاشها هناك حين اصطدم بمسؤول معهد الدراسات الشرقية ماسينون الذي رفض التعامل معه والاشراف على مذكراته. عكسما فعل هذا المتعصب مع محمد أركون الذي تم قبوله لا لشيء سوى تبنيه للفكر الاستشراقي..
بن نبي كان ضد الصوفية الطرقية وتعاظمها إلى درجة أنه وصفها بالوثنية لأنها ظلت تدعو للدروشة وزيارة القبور وتعتبر الاستعمار الفرنسي قدرا وقضاء ؟ ومن أهم مقولاته هي أن التاريخ الاسلامي انتكس، منذ نهاية الموّحدين....لذلك كتب الظاهرة القرآنية موجها رسالة إلى موجة تقمصتها جموع الشباب تدعو للإلحاد.. فأراد الرفع من شأن التوحيد الإلهي...
أما في كتابيه «وجهة العالم الاسلامي» و« شروط النهضة» فقد شخّص أزمة العالم الاسلامي وامكانات الخروج من عنق الزجاجة، مبرزا فكرة جوهرية وهي أننا لسنا بصنّاع تاريخ بل صنّاع بطولات فقط، منتقدا بعض حركات المقاومة التي دافعت عن شرفها وشرف قبائلها ولم تكن تحمل رؤية تغييرية شاملة تعمل على تغيير الأوضاع.. فصناعة التاريخ تتطلب سننا وخططا مستقبلية يوم تسعى للقفز على الواقع التعيس. زيادة عن أن رجال السياسة، بحسبه، رفعوا شعارات للمطالبة بحقوق الأهالي، لكنهم لم يفكروا في تغيير الانسان الجزائري...لأن هذا الأخير أي الانسان انتهى نفسه الحضاري وظل يرى بأن فرنسا هي القوة التي لا تُقهر؟ عكس أفكار وديباجة جمعية العلماء المسلمين التي رفعت يومها شعار: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم»، زيادة على انتقاده المؤتمر العلمي المنعقد عام 1936 والذي جمع في حضوره حتى الشيوعيين الذي رفعوا شعارات رنانة أوهمت الناس فقط شفويا....
مالك بن نبي قال إننا نكدس الأفكار كما تُكدّس الأشياء وأن بناء الحضارة يحتاج إلى تفاعل ثلاثة عناصر مهمة، وهي الانسان والمادة (التراب)، ثم الزمن. لأن الحضارة هي التي تنتج منتجاتها وليست المنتجات هي التي تلد الحضارة. .لذلك لا بد من العمل على اعادة هيكلة المنظومة التفكيرية للإنسان وأنماطه السلوكية ثم توجيه المال توجيها مفلحا أما الزمن فهو نفس الزمن الذي يدور ويتحرك أمام الناس والمجتمعات(الشمس تطّل على الجميع وتغرب على الجميع فقط وجب الاستثمار في الوقت).
صحيح العالم الاسلامي يملك ثروات طائلة لكنه لا يملك رأسمال ..لأن الثروة يمكن أن تورث لكن رأس المال يتحرك ويحيا بل يندفع للبحث عن فرص الانتاج..لذلك وجب قياس الانسان بأفكاره،بماله ثم بأعماله. وبتنشيط هذه المعادلة تتراءى بوادر الحضارة الحقيقية. وحينما ينتقل بنا للتحدث عن الثقافة فهو يرى بأنها تتكون من أربعة مبادئ أولها الأخلاقي ثم الجمالي والمنطق العملي ثم الجانب الفني.. فالحضارة الاسلامية لما ابتعدت عن السنـن الكونية التي يحث عليها القرآن الكريم افتقدت وخلت لكثير من العناصر الأخلاقية...فتجد المسلم يتحدث بما جاء في القرآن لكنه لا يعيش وفق القرآن ؟ا
كذلك لا توجد حضارة في الكون ابتعدت عن الدين أو نشأت بمعزل عنه ... ويعود ليقول لنا أن العقل الاسلامي فقد عنصر الابداع بعد الموحدين مُحثنا على توجيه الأنشطة سواء الثقافية أو الاقتصادية، لأنها كلما كانت متحركة وموجودة كانت نتيجتها مبتذلة وضئيلة، معرجا بنا على علاقة الرجل بالمرأة حيث يرى بأنه وجب الابتعاد عن الجانب الوعظي، لأنها مشكلة الانسان كإنسان وليست الجنس البشري.
أخيرا يقول أن مشكلة القابلية للاستعمار هي صفعة وجهها لزمرة من المثقفين الذين لازالوا يشعرون بالنقص تجاه الغرب وهي عقدة الخواجة كما يسميها ويعطي مثالا رائعا هنا وهو أن العالم الاسلامي لما اجتاحه التتار وحطموا بغداد وأحرقوا كتبها. تحول المهزوم إلى منتصر (المهزوم ابتلع الغازي) حين استطاع سيف الدين قطز في معركة جالوت دحر جيوش هولاكو...وانتصر هذا القائد بفضل ارادته وعزيمته وأنه ارتكز على حكمة «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة». إذا يصعب علينا مغادرة جلسة مفكرنا العظيم هذا مالك بن نبي رحمه الله وهو الذي سبق بأفكاره هذه وتحاليله الدقيقة الأقرب للواقع والمنطق عصره ولنا عودة إليه في مواعيد مقبلة.
شاعر وصحفي جزائري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.