كلما انطلق الحديث حول الكاتب رشيد بوجدرة انبلج سؤال القراءة بوجه ملح حيث أجدني مجبرا على طرحه بصيغة حادة : هل قرأ الجزائريون أولا والقارئ العربي ثانيا رشيد بالشكل الصحيح وهل قُرِئ أصلا ؟ فجل النقاشات المثارة من طرف المثقفين ووسائل الإعلام تأخذ طابعا سطحيا يتعلق بمسائل شخصية ضيقة (ثنائية: الإلحاد / الشيوعية) دون الانتباه إلى وسائل وتقنيات بوجدرة في الكتابة التي أعتبرها مدرسة لم يستطع الكثير من المبدعين تجاوزها وقد انتبهت لها الأوساط الثقافية الفرنسية مبكرا واستثمرت فيها بشكل جيد.
رشيد بوجدرة كاتب استثنائي لا ينفصل عن نصوصه حيث يعيش تجليات الأدب على نمط الحياة فصراحته وصدقه في مواجهة الآخر لا حدود لهما وهو المعروف بتصريحاته التي تبدو صادمة للكثير من الأطراف وتسبب له ارتباكات كثيرة بيد أنه لم يغير منها خلال سنوات طويلة من الكتابة والبحث وفي آخر لقاء جمعنا به قبل أيام رأيناه الكاتب العنيد الواثق من خياراته والمتمسك بمساحة الاختلاف حين يتعلق الأمر بالحريات الفردية فهو ينفي إقحام معتقداته الخاصة (بتعبيره) ضمن نصوصه الروائية والشعرية وهذا هو المعطى الأساسي الذي يوجب التدبر في تجربة هذا الكاتب الكبير.
ومما نغفل عنه في مسار رشيد بوجدرة أنه شاعر وهذا ما أكده في العديد من اللقاءات فهو لم يتبرأ من عمله الشعري الأول مثلما يفعل الكتاب بعد سنوات من ولوجهم عالم الكتابة ففي آخر طبعة لمجموعته «من أجل إغلاق نوافذ الحلم» التي صدرت عن الوكالة الوطنية للنشر والإشهار(2002) صرح بأنه لو أعاد كتابة هذه النصوص فلن يغير من روحها الثورية وشكلها المتصوف ووجها العنيف فبوجدرة ورغم أن مساره الشعري حصر في نصوص محدودة جدا من حيث العدد الاّ أنه يتمسك بهذا اللقب ومن خلال البحث نجد أن نصوص بوجدرة الشعرية لم تدرس بل ويغيب ذكرها,قد يفسر ذلك بقدامتها وقد يبرر بتقاعس الباحثين عن التنقيب بعمق في مسار هذا الكاتب القلق الذي لا يعرف إجازة حين يتعلق الأمر بالكتابة والإبداع.
مسيرة طويلة من النضال بداية بثورة التحرير التي التحق بها سنة 1959 إلى نضال ما بعد الاستقلال وصولا إلى الأزمة الأمنية التي شكلت خريطة سردية توثيقية كتب فيها بوجدرة أهم أعماله ( الجنازة – تيميمون – فيس الكراهية ) وغيرها حيث تستوقفنا نقطة تحول في حياة بوجدرة الأدبية من خلال اختباره لنشر رواية كل سنة بدل ثلاث سنوات ويبرر هذا الخيار بضرورة مواجهة العنف بالقلم تسليطا للضوء على بشاعة ما حدث في تلك الفترة كما أن بقاءه في الجزائر في وقت تزاحم فيه المثقفون لمغادرتها يعتبر موقفا كبيرا من مبدع ساهم في بلورة أفق جديد للكتابة السردية.
رشيد بوجدرة الكاتب الروائي والشاعر والسيناريست رفع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية والعربية عاليا ومن الصعب أن يصنع مبدع خلوده في ظروف قاسية طالما وصفها بالعذاب مصرا على دور هذا الأخير في انتاج المعنى وصناعة المجد فلا ينكر أحد عالمية بوجدرة الناتجة عن خمسة عقود من الإبداع وادراج اسمه بجائزة نوبل للأدب لأكثر من عقد يعتبر اعترافا مهما من الغرب الذي كتب له رشيد هموم الجزائر وأزماتها ونفسية انسان العالم الثالث بانكساراتها وأوجاعها,هذه الجائزة التي لم تفز برشيد بوجدرة لأسباب لا ترتبط بالإبداع,قد أعلن أكثر من مرة أنه سيرفضها لو تمنح له.
يبقى رشيد بوجدرة علامة فارقة في الأدب العالمي وسيظل النموذج الأنقى للمثقف المتورط في الذات الإنسانية الخجولة,القلقة والتي تحتاج دوما إلى صراحة ما,فكرة ما فتلجأ إلى الأدب,آخر الملاجئ الآمنة.