الحــوار..الحـــل السياسي للأزمة
من البيضاء، بن غازي، الزنتان، مصراتة إلى طرابلس وقف أبناء الشّعب اللّيبي كرجل واحد مرحبّين أيما ترحيب بالسيد عبد القادر مساهل وزير الشّؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، الذي انتقل شخصيا في زيارة هامّة استغرقت ٣ أيام، تحادث خلالها مع الفعاليات السياسية والعسكرية ذات التّأثير في مجريات الأحداث الرّاهنة.
ففي جوّ من التّقدير العالي والاحترام الكبير للجزائر، توجّه مساهل مباشرة إلى إخواننا في ليبيا قصد ترقية الحوار اللّيبي - اللّيبي داخل بلد عمر المختار، والرّهان على الحل المستدام وكذلك السّعي من أجل التّقريب بين أبناء الشّعب الواحد، وفي نفس الوقت عرض التّجربة الجزائرية في المصالحة الوطنية.
وهذا كلّه من أجل التخلّص من الحالة الأمنية المعقّدة، التي للأسف طال أمدها في بلد يحوز أهله على عزيمة تجاوز هذه المحنة في أقرب وقت، وعدم ترك الوطن عرضة للتمزق والتّشرذم مثلما يعاني منه اليوم للأسف. المساعي السياسية في المناطق اللّيبية كانت ناجحة بامتياز ارتاح لها الجميع نظرا لما كانت تحمله من رسائل قوية المضمون في جانب الحرص الجزائري على تفادي كل ما من شأنه إدخال ليبيا في متاهات هي في غنى عنها، خاصة ما تعلّق باستقرارها الدّائم، وعدم تحوّلها إلى بؤرة توتّر قد تؤدّي إلى ما لا يحمد عقباه على الصّعيد الأمني خاصة.
وقد تأثّر اللّيبيّون لسماعهم هذا الكلام الصّادق والواضح على لسان مساهل في كل المحطّات التي التقى فيها بمسؤولي تلك الجهات، كان الهدف منها الإسراع في إيجاد الآليات العملية القادرة على الوصول إلى التّسوية المرجوّة المبنية على أسس قوية وأرضية سليمة.
وهذا الإجماع المسجّل الذي هو نتاج الثّقة المتبادلة بين الإخوة اللّيبيّين والجزائر ليس وليد اليوم بل هو قائم بذاته، وراسخ في أذهان الجميع منذ أن طرأ ذلك التّغيير وتمّ الإطاحة بالنّظام السّابق، من هنا دأبت الجزائر على اتّباع سياسة مساعدة هذا البلد للخروج من الأوضاع النّاجمة عن هذا التحول الجذري. ولا يتوقّف مساهل عند هذا السّقف بل أنّ هناك زيارة مرتقبة له للمناطق الجنوبية في غضون الأسابيع القادمة كي تستكمل دائرة الاستشارة الواسعة للوصول إلى قواسم مشتركة بين كل الأطراف المعنية بالأزمة الأمنية. وبناءً على هذا العمل، فإنّ مسار المرحلة القادمة سيكون حاسما في لمّ شمل كل اللّيبيّين في لقاء جامع هدفه البحث عن الحل المستدام الوارد في الاتّصالات التي جرت في هذا البلد والذي اقترحته الجزائر، من خلال الالتزام بمبدأ الحوار دون إقصاء.
والبوادر الأولية المشجّعة لهذا الإنجاز الجزائري هو حلول مارتن كوبلر بزيارة عمل إلى الجزائر لمواصلة المشاورات بين بلادنا والأمم المتّحدة حول آخر مستجدّات الوضع ومدى تطبيق الاتّفاق السياسي، كما ستحتضن الجزائر الإجتماع الـ ١١ لدول الجوار اللّيبي خلال شهر ماي القادم، في إطار الجهود الرّامية إلى دعم الحل السياسي، والسّعي من أجل فرض حركية جديدة في الملف اللّيبي يترجم الإرادات الخيّرة الرّاغبة في التوصل إلى التّسوية المأمولة.
ومؤشّر هذه المتغيّرات في الموقف السياسي لليبيّين ظهر في الاستجابة الواسعة للأفكار المطروحة من قبل مساهل بعيدا عمّا يعرف «بالمبادرات»، إيمانا بأنّ مفتاح الحل بحوزة اللّيبيّين وبداخل بلدهم دون أي تدخّل أجنبي في شؤونهم، هذا التوجه المعلن اليوم هو بمثابة إعلان رسمي عن بداية فترة أخرى في مسيرة هذا الشّعب، الذي اختلف أفراده فقط في كيفية حب وطنهم والدّفاع عنه، وحمايته من كل العواقب المشينة.
ولابد من التّأكيد هنا، بأنّ جولة مساهل هذه كانت ثرية في محتواها وغنيّة في مضمونها، خاصة ما تعلّق بالموافقة والقبول الصّريح، لما تمّ إبلاغه للقيادات السياسية والعسكرية والأعيان بخصوص ما ينتظر من هذه الزيارة، وهكذا فإنّ تبادل الكلمات لم تخل من محتواها القوي الحامل لدلالات ذات المغزى العميق سياسيا، كالحوار، الحلول، رسالة أخوّة وتضامن، الصّراحة والوضوح وغيرها من المصطلحات التي تكرّرت بإخلاص في كل المحطّات التي وقف عندها مساهل، أبدى فيها اللّيبيّون استعدادهم الكامل لفتح حوار وطني واسع.
وقد استهلّ مساهل زيارته من مدينة البيضاء، مبرزا خلال اللّقاء الذي جمعه مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، أنّ رسالة الجزائر واضحة، لا بديل عن الحل السياسي التوافقي بين اللّيبيّين أنفسهم دون تدخّل أجنبي، مؤكّدا أنّ الجزائر كانت السباقة إلى الدّعوة إلى الحوار الليبي - الليبي، وستظل إلى جانب الشّقيقة ليبيا لأنّ مصير ومستقبل ليبيا من مصير ومستقبل الجزائر، ومن جهته شدّد عقيلة صالح على أنّ الجزائر هي الأقرب إلى ليبيا، وأنّ موقفها الواضح من البداية مهم لحل الأزمة، والتي يجب أن تكون على أساس الحوار دون تهميش مع رفض التّقسيم.
وفي بنغازي تحادث مساهل مع المشير خليفة حفتر حول تطوّرات الوضع السياسي ودعم الحوار، بناء على الاتفاق السياسي والمصالحة الوطنية، وكانت فرصة لوزير الشّؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية لمقابلة أعيان وشخصيات محلية من جهات شرق ليبيا، والذي أكّد لهم قدرة اللّيبيّين على مباشرة الحوار والتوصل إلى حلول مستدامة، وأنّ الجزائر ترافع من أجل الحوار الليبي - الليبي وداخل البلد، مشيرا إلى أنّنا جئنا لنستمع إلى أشقائنا في بنغازي داعيا إلى تغليب الخطاب القائم حل الأزمة التي تنبع من الإرادة وحب الوطن، مستعرضا التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، وتجاوز المحنة بفضل السياسة الرّاشدة لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، ومن جهتها فالجزائر مستعدّة لتقاسم هذه التّجربة، إذ لا يمكننا أن نبقى مكتوفي اليد وليبيا تعيش هذا الوضع.
كما أبدى أعيان وشخصيات محلية عن ارتياحهم لمستوى الجهود التي تبذلها الجزائر لتقريب وجهات النّظر بين اللّيبيّين، مؤكّدين استعدادهم للمشاركة في حوار ليبي - ليبي الشّامل والمصالحة الوطنية، قصد التوصل إلى حل سياسي مستدام، مشيدين بالاهتمام الذي يوليه الرئيس بوتفليقة لدعم مسار التّسوية السّلمية للأزمة في ليبيا.
في الزنتان استقبل مساهل بحفاوة، رسميا وشعبيا بالمطار، حيث رفع اللّيبيّون لافتات كتب عليها: «أهل الزنتان يرحبّون بأبناء بلد المليون ونصف المليون شهيد، ومرحبا بالمجاهدين الأبطال»، وأمام أعيان منطقة الزنتان والمسؤولين المحليين أوضح مساهل بأنّه يحمل رسالة أمل نابعة من تجربة الجزائر المريرة ضد الإرهاب، التي لا نريد أن تتكرّر في ليبيا، معبّرا عن ثقته في أن يمكن اللّيبيّون من طيّ صفحة العنف، لأنّ هناك نساء ورجال قادرون على إعادة بناء هذا الوطن، من خلال الحوار والحلول السياسية، والمصالحة الوطنية دون إقصاء أو تهميش.
ومن جهتهم، ثمّن أعيان الزنتان وشخصيات محلية الجهود التي تبذلها الجزائر بقيادة الرّئيس بوتفليقة من أجل لمّ الشّمل بين أبناء ليبيا، داعين إلى ضرورة الاستفادة من التّجربة الجزائرية في السّلم والمصالحة الوطنية، كما أكّدوا التزامهم بالحوار بمشاركة كل الأطياف.
وفي مصراتة تحادث مساهل مطوّلا مع قيادات عسكرية من غرفة عمليات «البنيان المرصوص»، ونواب وممثّلين عن التجمع السياسي، ومجلس الأعيان والشّباب.
وإثر هذه اللّقاءات سجّل مساهل إرادة قوية لدى اللّيبيّين للتّوصل إلى الحلول السّلمية والحوار اللّيبي - الليبي بداخل البلد، دون إقصاء أو تهميش.
وفي طرابلس التقى مساهل برئيس المجلس الأعلى للدولة عبد الرحمان السويحلي، وأشار وزير الشّؤون المغاربية، والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية إلى أنّه جاء برسالة أخوّة وتضامن مع الشّقيقة ليبيا، أما السويحلي فقد نوّه بموقف الجزائر الذي يبقى على مسافة واحدة مع كل الأطراف في ليبيا، ما يجعل دورها أكثر فعالية في دعم التّسوية، وأنّ المجلس الأعلى للدولة مستعدّ لتقديم كل ما يمكن من أجل الخروج من هذه الأزمة وإيجاد حلول سريعة.
هذه الجولة لمساهل ذات الأبعاد السياسية تؤسّس لسياق حيوي في غضون الأيام القادمة، في إطار الإنطلاق في تصوّر جديد للمفاوضات بين الفعاليات اللّيبية وفق مقاربات تخدم مصلحة البلاد والعباد للخروج من هذا الوضع الصّعب، خاصة مع كل هذه الإرادات الثّابتة.