أوقد لهيب الغيْرة فيها، فسقتْه صبرا على صبرِها، استطاعت رغم أمطار الشّتاء المنهمرة على أغصانها المتعبة من العواصف أن تتشبّث بالحياة وأن تعطي لأيّامها معنى. كان لا بدّ للقدر أن يستجيب لدعاء تضمّخٰ بقيود الذلّ ومتاهات الانكسا، كان لا بدّ للأرض الجاحدة من زلزال يعصِف بالخريف الذي أبى الرّحيل، فبعثر جميل أوراقها ولم يُبالِ بأنين القواريرالمُستسلمة لأمواج البحر العاتية، كان لا بدّ للأمواج العاتية أن تهدأ لتحطّ القوارير على شواطئ القدر. مازالت تذكر نظراته النّاعمة وابتساماته التي تطرق أبواب قلبها لتزيدها حُزنا لأنّها تدرك جيّدا إتقانه للعبة الضّمير والأقنعة، لمْ تعد تكترث كثيرا بما قد تبوح له به من خفايا ألمها، اعتاد أن يقتحم المطبخ كلّ صباح ليملأه دخانا متصاعدا من سيجارته.
كانت تنظر إلى ذلك اللّون الرّماديّ المسافر من النّافذة نحو الأفق، آه، لو أنّها تستطيع التشبّث به...مع أنّها تحترق. لمَ لا يحقّ لها الرّحيل مثل دخان هذه السيجارة؟ لا تدري يومها كيف خانتها الكلمات في لحظة صدق مع ذاتها - لقد أحسنتَ اختيار الهديّة وبنفس الصّدق أجابها دون تفكير - صحيح. حدّق نحوها وقد تجمّدت الدّماء في عروقه. أمّا هي فلم تُحرّك ساكنا، واصلت غسل الأواني وكأنّ شيئا لم يكن، خيّم على المكان بِأسره صمت قاتل قد قيل فيه كلّ شيء. لطالما انتظرت عيد ميلادها بترقّب يؤرّقها، مزيج من الأمل والألم، ليس خوفا من نسيانه الموعد، فذاكرته عصيّة عن النّسيان بل لأنّه لمْ ولنْ يكترث لِلهفتها كأنثى بهديّة تسقي حديقتها العطشى، بشيء يعيد علاقتهما الزّوجية ليس إلى الحياة بل إلى حالة الاحتضار. ألم تخطر بباله ولو وردة ذابلة، باهتة يقطفها من حديقة المقْبرةِ القريبة منها؟ لمَ لا يدرك أنّ ما يُسمّيه ترهات نساء وعبث أطفال هو الشّهد بعينه. هو القنديل السّحريّ الذي يجعل الورد يزهر والسّماء تصفو والفراشات تحلّق لتُسكِر الدّنيا حبا وعشقا وأنوثة، اعتادت أن تخفي لهفتها وراء ستار اللامبالاة، أن تقنع الطّفلة فيها بأنّ الهديّة وإن كانت كلمة تهنئة بذكرى عيد ميلاد لا قيمة لها، فالحياة أكبر من هذه السّخافات وأعمق بكثير. كيف يُعقل أن تربط سعادة ليلتها بهذه الترّهات؟ لكنّ بستان قلبها المتعطّش لغمام الحبّ وسكرِ الهيام يرفض أن يفهم أو حتى أن ينصت، كانت سهرة ليلة جمعة وكان البدر كعادته رفيقها الوفيّ ينير عتمة ليلها ويُسعدها بوِصاله، معه لن تشعر بالوحدة، سيكون سندها الحنون لتتحمّل ثِقل هذه السّهرة مع هذا الرّجل..آه نعم...مع زوجها نظرت إلى مرآتها وابتسمت. اجتهدت لكي ترسم أجمل ابتسامة تهديها للأنثى فيها: كلّ سنة وأنتِ بألف خير...كلّ سنة وأنت سعيدة...كلّ سنة وأنت أنثى. اختنقت من وقع كلماتها، سكتت حتى لا تخونها دموعها. لن تبكي الليلة، إنها ذكرى عيد ميلادها، الليلة هي ملِكة ويجب أن تكون مُشرقة. عزَمت أن تكون سهرتها مميّزة ليس من أجله بل لأنّها تستحقّ ذلك، تزيّنت بفستان تحبّه يذكّرها بأيّام امتلأت بالضّحكات ثمّ جلست على كرسيّها أمام المرآة، تأمّلت تقاسيم وجهها وكأنّها تبحث عن شيء ما أو عن بقايا شيء ما، وضعت المساحيق وسرّحت شعرها برشاقة الفراش وبسرعة خاطفة إذ تخشى أن توقد لهيب جسدها وثورته. أضافت بعض اللّمسات لتضفي على المكان ما يوحي بالحبّ والانسجام، لِمَ لا بعض الشموع زهرة ورديّة اللّون على مائدة العشاء. طبعا لا تستطيع أن تُتقن اللّعبة إلى درجة أن تختار وردة حمراء، كل شيء جاهز الآن لسهرة هادئة رسمتها في مخيّلتها بأدقّ تفاصيلها. الموسيقى المرافقة للعشاء الفاخر الذي أعدّته، المرطّبات للسّهرة و المسرحيّة الهزليّة التي يفضّلها زوجها. سمعت الباب يُفتح، آه...إنّه هنا. بسرعة أضافت بعض قطرات من عطرها الفرنسي واستقبلته بابتسامة حاولت أن تكون صادقة. رائعة كعادتك حبيبتي رسم على شفتيها قبلة خفيفة لم تكد تشعر بها وجلس يخلع حذاءه ويتحدّث عن المقهى، ارتفاع الأسعار والميكانيكي الذي لم يصلح السيّارة كما وعده. لم يُبدِ إعجابه بفستانها الأسود المكشوف الصّدر والظّهر ولا بطريقة تسريح شعرها. ألم يلاحظ تغييرا؟ لقد قصدت صبيحة ذلك اليوم محل الحلاقة لتبدوَ امرأة مختلفة، لتطرب أذنيها ببعض كلمات الغزل. تنهّدت بصمت وتمنّت من كلّ قلبها أنّ يكون لم ينتبه لما بذلته من جهد، في تجملها، فهذا أرحم من عدم لا مبالاته القاتلة. أشرفت السّهرة على الانتهاء. أحسّت بنوع من الرضا، فسهرتها المميّزة انقضت كما خطّطت لها وقد استوفت كلّ ما يمكن لامرأة شرقيّة أن تمنحه لنفسها. كانت تدرك جيّدا أنّه لم يبقٰ سوى أن يتذكّر فارسها فجأة عند ملامسته مخدعه أنّ التي معه زهرة ليشتّت أوراقها المبعثرة أصلا، ولكنّ ليلتها فاقت كلّ التوقّعات، كانت مميّزة فعلا، ترسّخت في ذاكرتها إلى الأبد، دخلت المطبخ لتضع بعض الكؤوس الفارغة وحينها سمعت زوجها من ورائها يُتمْتِمَ بكلمات وكأنّه يسحب حروفها غصبا من بين أضلعه: هذه لكِ، شيء في كيس بنيّ اللّون...هل يُعقل؟...هديّة؟ أخيرا ذهب إلى المتجر؟ توقّف وتحمّل عناء اختيار هدية لها؟ أخيرا أعطاها حيّزا من تفكيره ووقته وماله؟ تهاطلت الأسئلة على فكرها فشلّته، حدّقت في زوجها، لم تجد الكلمات في الوهلة الأولى، شغفها بهذه اللحظة التي لطالما تمنّتها جعلها لا تستطيع استيعاب الأمر، رغم أنّه لم يقدّم الهديّة برومنسية حالمة ولم يحسن اختيار المكان ولا الكلمات إلّا أنّها أحسّت بفرحة تغمرها، بحرارة مفاجئة تطوّقها لتحملها نحو أمل جديد. ربّما سيبدأ جبل الثّلج بالذّوبان ليختفيَ تاركا مكانه لصرح شامخ من الحب والحياة، وفي لحظة وجدت نفسها ترحل نحو مدن الأحلام والهيام، رأت شروق ربيع جميل، رأت نوارس العشق تحملها على أجنحتها لتحطّ بها على جزيرة مزهرة حيث الرّيحان والعبق والعطور. بدا لها زوجها رجلا مختلفا وكأنّ ملامح وجهه تغيّرت لتشبه ملامح الفرسان وأبطال قصص الغرام، نظرت في عينيه لعلّها تجد فيهما صدى أحلامها وقد احمرّ وجهها وارتعش صوتها: شكرا لك حبيبي. تركها واقفة ليعود إلى تلفازه، تشجّعت وبلهفة فتحت هديّتها، عطر فرنسيّ باهض الثّمن....أيعقل؟ لكن سرعان ما أفل سحر تلك اللّحظة، سرعان ما تلبّدت سماؤها بالسّحب السّوداء وهاجت أمواج بحر الألم فيها وانتفضت، أدركت بحدس الأنثى أنّه لم يذهب إلى المتجر، لم يشتر الهديّة، لم يكلّف نفسه عناء الاختيار، لم يدفع دينارا واحدا ولم يحترم كرامتها كزوجة أو حتى كإنسان، عشيقتُهُ التي عادت من السفر منذ ثلاثة أيّام هي التي اشترت الهديّة الملعونة وفق ذوقها، حملت العطر بين يديها الحزينتين أحسّت كأنّ الهدية تحوّلت إلى جمرٍ يحرق أصابعها ويُلهب قلبها، توجّهت نحو غرفة الجلوس وتوقّفت عند الباب تتأمّله. كان يجلس هناك منسجما مع أحداث المسرحيّة ويضحك ملء شدْقيهِ، سكنتْ فجأة لِيسكن معها كلّ شيء، ألا يشعر بفضاعة تصرّفاته؟ لا يوجد كلام ولا عتاب يمكن أن يعبّر عن كمّ الألم في نفسها. آثرت الصّمت وعادت إلى عالمها حيث البومُ ينتظرها بابتسامة ساخرة، وككلّ ليلة سمحت لمبعثر له يقطف الشّهد ولكن هذه المرّة كان الألم قد بلغ مُنتهاه..