طباعة هذه الصفحة

رئيس مجلس المنافسة عمارة زيتوني لـ «الشعب» :

اقتصاد السّوق يتطلّب منع التّلاعب بالأسعار أو الإخلال بقاعدة العرض والطّلب

حاوره: سعيد بن عياد

ضرورة إحداث فروع جهوية للمجلس واعتماد مفتّشين متنقّلين لمراقبة السّوق

المجلس اتّخذ قرارات طبقا للقانون وبت في قضايا شائكة ضد شركات قوية

تمّ تكريس خيار اقتصاد السوق بجانبه الاجتماعي من خلال التعديل الدستوري الأخير، غير أنّ الصّدمة المالية الخارجية بتداعياتها الداخلية أظهرت مرة أخرى هشاشة السوق أمام ظاهرة انفلات الأسعار التي عرفت في المدة الأخيرة، وبالذات مع مطلع سنة 2017 ارتفاعا فاحشا رافقته عودة شبح الندرة لبعض المواد في ظل ممارسات تتعارض مع روح اقتصاد السوق من مضاربة واحتكار كما حصل مع مادة البطاطس، التي تحول اليها على ما يبدو مستوردو التفاح والموز، الذين خسروا مواقعهم الممتازة  في السوق اثر قرار السلطات العمومية المختصة بوقف الاستيراد وإخضاعه من الآن فصاعدا لنظام رخص مسبقة وفقا لدفتر شروط محدد. وفي خضم تضارب المصالح في سوق مفتوحة تبرز أهمية المنافسة النزيهة باعتبارها الميزان الذي يضمن حقوق الأطراف من متعاملين وكمستهلكين والحق العام ممثلا في الضرائب والحقوق. ولأنّ اقتصاد السوق يحد من تدخّل الدولة كطرف، فإنّه يتطلّب بالمقابل تحرّك آليات الضّبط التي يوجد على رأسها مجلس المنافسة، الذي يواجه محيطا صعبا لغياب ثقافة المنافسة واتّساع رقعة النشاطات التجارية والصناعية الموازية بما يضر بعنصر الاستقرار المطلوب في مشهد اقتصادي محلي يتأثّر أيضا بمحيطه الاقليمي والعالمي.ولتسليط الضوء على مختلف جوانب المسألة المتعلقة بالسوق التي تحوّلت إلى انشغال في أوساط الرأي العام بالنظر للانعكاسات السلبية على القدرة الشرائية، يشخّص رئيس مجلس المنافسة السيد عمارة زيتوني في هذا النّقاش الوضع القائم ويشرح أسبابه.
يعتبر عمارة زيتزني أنّ مسألة ضبط السوق لا تزال بمثابة التحدي الأكبر منذ الانتقال إلى اقتصاد السوق في سياق الإصلاحات الشاملة نهاية التسعينات، مذكرا أنّه تمّ في 1995 إنشاء مجلس المنافسة وظهرت حوله مدموعة سلطات ضبط قطاعية بالتدريج، بحيث تتكفّل كل سلطة بمهمة ضبط سوق قطاعها مثل الاتصالات والمحروقات والمياه.
صعوبات تعيق المهمّة أبرزها غياب مقر وقلّة الموارد
كما اقترح الخبراء في تقرير لجنة إصلاح الدولة التي عيّنها الرئيس بوتقليقة ضمن مسار تطبيق الاصلاحات الشاملة اعتماد أدوات لضبط السوق من خلال تخلي الدوائر التقليدية عن بعض الصلاحيات لفائدة اليات مستقلة، علما أنّ الدولة الحديثة تقتضي تفويض جانب من صلاحيات ضبط السوق لآليات تنشط باسم ولحساب الدولة. وتكون هذه الأدوات ذات الطابع الإداري مستقلة عن الجهاز التنفيذي اي الحكومة وليس عن الدولة، كما أوضح، كونها هي (أي الدولة) من توفر الميزانية وتتكفّل بأجور الموظّفين، كما يخضع المجلس للمراقبة بمختلف الاشكال. ولعل أكبر رقابة هي خضوع القرارات التي يتّخذها المجلس للطعن أمام مجلس قضاء الجزائر ومجلس الدولة، بل أن اكبر رقابة، بقول رئيسه، إلزام مجلس المنافسة بتقديم تقرير سنوي حول نشاطه إلى الوزير الأول والبرلمان ونشره للرأي العام.
وبهذا الخصوص يشير إلى أنّ المفهوم السليم هو استقلالية الهيئة عن الجهاز التنفيذي وكافة جماعات الضغط من أجل ومنع أي تدخل أو تاثير على المجلس، مؤكّدا أنّ مجلس المنافسة يتمتّع باسقلالية تامة، إلاّ أنّ المشكلة تكمن في أنّ آليات ضبط السوق عموما والمشكّلة منذ سنوات لا تزال أقل من المطلوب من حيث الأداء والفعالية في الميدان، وبالنسبة لمجلس المنافسة الذي يجري إعداد تقريره السنوي 2016، فإنّه يواجه بعض الصّعوبات التي تعيقه مثل غياب مقر خاص وعدم القدرة على توظيف موارد ذات كفاءة في غياب امكانيات وموارد مادية مطلوبة لتحقيق أهدافه بكل المقاييس.
إدراج إجراء العفو لكسر الـ «كارتيلات»
ولتعزيز المنافسة وحماية السوق وخلافا لبلدان متقدمة في هذا المجال، يقول عمارة زيتوني: «لا يوجد لدينا إجراء العفو الذي يفتح المجال لكسر التكتلات الاقتصادية السلبية التي تنشط في الخفاء في وقت لا تزال ذهنيات تغذي ثقافة الوصاية بينما يتطلب تفعيل اليات الضبط إحاطتها بالدعم والمرافقة، ذلك أنها لا يجب أن تخضع إلى الوصاية بقدر ما يجب اعتماد خيار المرافقة لتحقيق الأهداف». وفي بلدان ذات أسواق متطوّرة يسمح العفو لأفراد من داخل تكتلات تجارية أو جماعات مصالح بالمبادرة بكشف تلاعبات بالسوق فيتم إجهاضها مبكرا.
ومن أكبر الظواهر التي تسيء الى سمعة السوق تشكل جماعات مصالح لافراد أو شركات (كاترلات)، التواطؤ، تقسيم حصص السوق أكبر المشكلات التي ينبغي معالجتها علما أنها ممارسات قيدمة حيث هناك قطاعات مصابة بمثل هذا الوباء على غرار قطاع الاسمنت، الحديد، الخضر والفواكه والأدوية. وفي بلدان عديدة تصنّف هذه الممارسات في خانة الجريمة المعاقب عليها بالسجن، كما يتم إقصاء كل متورط فيها من الصّفقات العمومية ومنعه من التواجد في السوق صناعة أو تجارة. أما عندنا يوضّح محدّثنا «لا يزال الوضع يحتاج إلى بذل جهد كبير لمواجهة ظاهرة تضارب المصالح في السوق والتواطؤ بين مؤسسات ومتعاملين لاقتسام السوق، وبذلك من المفيد اللجوء الى إدراج مادة تتعلق بالعفو، بحيث توفر لأطراف فرصة الكشف عن تلاعبات ومختلف جرائم ضرب استقرار السوق». للاشارة، يضيف، «فإنّ الزّيارات الفجائية والتفتيش إجراء يخضع لضوابط ينظّمها القانون وتتطلب إبلاغ القضاء او التحرك تحت رقابة وكيل الجمهورية من أجل حماية حقوق الاطراف». ويوجد حاليا لدى مجلس المنافسة 5 مفتشين للتحريات فقط وهذا غير كاف - حسب مسؤوله - بالنظر لاتساع رقعة السوق وشساعة الاقليم وضخامة المهام، ولذلك يقول: «يا حبّذا لو يتم إحداث فروع جهوية للمجلس أو اعتماد مفتشين متنقلين لمراقبة السوق، وهو أسلوب معمول به في الصين، روسيا، الهند والبرازيل».
رهان على الجانب الوقائي بدل الأسلوب القمعي
 وعن فلسفة عمل المجلس، فإنّ المقاربة التي ينطلق منها ترتكز على تفضيل الجانب الوقائي بدل الأسلوب القمعي، ولذلك يضيف رئيسه تمت المبادرة بإرساء مسار بيداغوجي لتكريس ثقافة المنافسة النزيهة من خلال ملتقيات وندوات حول المنافسة كمعيار بين النجاعة الاقتصادية وحماية المستهلك، كون اقتصاد منظم مع مؤسسة ناجعة وحماية للمستهلك هي أسس البناء السليم للسوق. وفي هذا الاطار، نظّمت سلسلة من عمليات التحسيس لفائدة المتعاملين وأطراف السوق حول مزايا المنافسة، وذلك بدعم من منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «كنوسيد» والاتحاد الاوروبي، وبوسائل المجلس الخاصة فقط تم تنظيم حوالي 12 ملتقى من أجل تكريس ثقافة المنافسة النزيهة. وفي هذا الاطار من المزمع تنظيم في 17 ماي المقبل بالتعاون مع «كنوسيد» ملتقى حول التحسيس بمزايا المنافسة في اقتصاد منظّم بمشاركة خبراء أجانب من جنيف، إلى جانب الأطراف المعنية مثل المجلس وسلطات الضبط القطاعية والسلطات العمومية وكذا البرلمان ومنظمات المتعاملين وجمعيات حماية المستهلك.
الضّبط ضمن شفافية المعاملات وحقيقة الأسعار
وفيما يخص مستقبل السوق ضمن معايير الاستقرار وشفافية المعاملات وحقيقة الاسعار، أجاب عمارة زيتوني أن الضرورة تلح على وجوب أن تكون هناك آليات لدى الدولة لضبط السوق على كافة المستويات على اعتبار أن اقتصاد السوق يتطلب إرساء قواعد تمنع التلاعب بالاسعار أو الاخلال بقاعدة العرض والطلب، مسجّلا حقيقة وجود القوانين بأحكام نوعية لكن تتطلّب تطبيقا شاملا ودائما حتى تفرض قواعدها، وهو ما يقع على عاتق الاليات المعنية بالضبط بالمبادرة للعمل في الميدان وحينها يمكن تجاوز المرحلة وتجسيد الاهداف المتواخاة من تحرير المبادرة وحماية السوق التي تتطلب اليوم تظافر الجهود بما في ذلك جهود والتزام المتعاملين الاحترافيين، خاصة وأن الدولة عبر أجهزة الدعم والمرافقة توفر شروط المنافسة النزيهة ضمن رؤية شاملة.
ومن هذا المنظور يعتبر مجلس المنافسة «دركي» السوق لما يتوفر عليه من مهام وصلاحيات يمكن أن تساهم في تصحيح المعادلة، وقد سبق ميلاده ظهور آليات الضبط القطاعية التي يشتغل معها بتجاوب كبير اليوم على غرار سلطة ضبط المحروقات التي تستجيب بشكل إيجابي. وفي دراسة قطاعية حول الادوية، يشير رئيسه قائلا: «وجدنا تجاوبا من وزارة الصحة وغيرها من الدوائر الوزارية المعنية بملفات، وعليه المطلوب مرافقة تلك الآليات حتى تلعب دورها كاملا». وسبق لمجلس المنافسة أن اتّخذا قرارات طبقا للقانون 95 / 06 المتعلق بالمنافسة، حيث بت في قضايا شائكة ضد شركات قوية وأعطى آراء. غير أنّه عرف مرحلة استثنائية انكمش فيها دروه حينما شمله تجميد للنشاط لمدة عشرية كاملة قبل أن يستأنف النشاط في أعقاب أحداث الزيت والسكر لشهر جانفي 2011 لما شكّل المجلس الشعبي الوطني لجنة تحقيق توصّلت إلى طرح تساؤل حول جدوى مجلس المنافسة وسبب غيابه عن الساحة آنذاك. للإشارة، يوضّح عمارة زيتوني: «في بلدان أخرى يتم على مستوى إعداد مشاريع القوانين ذات الصلة بالمنافسة عرضها على مجلس المنافسة لإبداء الرأي والملاحظة من حيث تداخل المهام أو وجود مواد تكبل المنافسة وتؤثر عليها»، إلاّ أنّه يوضّح «إلى اليوم لم يصلنا مشروع قانون من هذا القبيل لإثرائه أو تدقيق أحكامه حرصا على انسجام التشريع طبقا للمادة 36»، علما أن رأي المجلس ليس إلزاميا لكنه يفيد بلا شك في توضيح مختلف جوانب أي مسالة تتعلق بالمنافسة وحماية حقوق الأطراف في السوق، كما يبادر تلقائيا بإبداء الراي بشأن مسائل تتعلق بالسوق. كما يجيز القانون لكل شركة أو جماعة محلية أو جمعية مستهلك الحق في إخطار مجلس المنافسة لطلب الرأي حول السوق، وقد قدّم المجلس فعلا 5 آراء من بينها ما يخص المنافسة في أسواق التأمينات، الاسمنت، رخص الاستيراد (النص التطبيقي) وإقامة محطات البنزين على الطريق السيار، فيما يعكف على إعداد رأي سادس حول موضوع لم يكشف عنه محدّثنا إلى حين الانتهاء منه.
ميثاق أخلاقيات موجّه للمتعاملين الاقتصاديّين
وتحسّبا لشهر رمضان الذي تلتهب فيه السوق لعوامل عدة منها ما يتعلق بالمستهلك من خلال زيادة الطلب، ومنها ما يتعلق بالمتعامل جراء الاحتكار والمضاربة، يوضّح زيتوني «أنّ الهدف من تكريس المنافسة وحمايتها هو استقرار السوق بشكل دائم، ولذلك لا يشتغل مجلس المنافسة بالمناسبات أو الظرفية». وفي هذا الاطار تمّ طرح ميثاق أخلاقيات موجّه للمتعاملين الاقتصاديين والفاعلين في السوق، غير أنّ الأمر يتطلب - حسبه - «ترسيخ ثقافة احترام قواعد المنافسة، فمن المهم أن تحترم مؤسسة بإرادتها أخلاقيات المنافسة كونها تكون أول المستفيدين من ذلك». لكن بالمقابل ينبغي أن يدرك المواطن المستهلك مدى النتائج الايجابية لعدم وقوعه في قبضة السوق من خلال عدم الاقبال غير الطبيعي، وقطع الطريق أمام التجار الذين يستغلون ارتفاع الطلب مقابل قلة العرض لتطبيق أسعار نارية.
وعليه في رمضان الفضيل لا ينبغي أن يتحوّل هذا الشهر الكريم إلى موعد للاستهلاك بلا قيود إنما ينبغي أن يكون المواطن على درجة من اليقظة باتباع مسار اقتصاد للنفقات وترشيد للميزانية، علما أنّ المنافسة كحلقة منعزلة في سلسلة السوق لا تحل المشكلة إنما هي جزء من حلقات مترابطة تشكّل عناصر السوق التي تعاني من «كارتلات» عابرة للحدود. وبفعل ارتباط السوق بالاستيراد وامكانية تحرك المجلس للاستعانة بهيئات أجنبية مماثلة، إلا أن الواقع يظهر صعوبة تحقيق نتائج لترابط المصالح وصراع على الأسواق ومن ثمة لا خيار سوى العمل محليا بروح المواطنة.
ولأن السوق تشهد معركة كبرى فيما همّ كل دولة أن يكون المرفق العام ذي الصلة يشتغل بانتظام على أساس ضبط السوق من خلال آليات ناجعة، فقد تعزّز هذا التوجه في بلادنا، كما يسجّله رئيس مجلس المنافسة، من خلال المادة 43 من الدستور المعدل في 2016 (التي طوّرت المادة 37 في دستور السابق)، حيث كرّست 5 مبادئ للمنافسة تتمثل في ضبط السوق من طرف الدولة، منع الاحتكار، منع المنافسة غير النزيهة، عدم التمييز بين المؤسسات العمومية والخاصة في مجال الدعم من الدولة وحماية المستهلك. وبهذا الخصوص، يضيف، فإنّ تطبيق هذه المبادئ الدستورية يتطلب إدراجها في قانون المنافسة، وهو ما تقدّم بطلبه من خلال تقديم اقتراحات، خاصة وأنّ هذا التعديل ورد باقتراح من مجلس المنافسة كون الهدف في الأصل هو حماية المستهلك من خلال إرساء منافسة نزيهة وشفافة يحترم الجميع قواعدها.