طباعة هذه الصفحة

اليـوم الأغّر.. يوم النّصر

إسقــاط مقولــة: “الجزائــر فرنسية”

بقلم: أحمد بن السائح

طروحات وردود فعل

تجلت طروحات الوفد الفرنسي في:
   1 ــ منح الحكم الذاتي للجزائر.
   2 ــ فصل الصحراء عن الجزائر.
   3 ــ تقسيم الجزائر من الناحية العرقية إلى مسلمين وأوروبيين.  
   4 ــ بحث القضايا حول طاولة مستديرة.
   5 ــ قبول هدنة قبل إجراء المفاوضات الرسمية .
    أما الجانب الجزائري فقد استمسك بـ :
  1 ــ الإستقلال التام،
   2 ــ السيادة التامة،  
   3 ــ وحدة التراب الوطني بما في ذلك الصحراء،    
   4 ــ وحدة الأمة الجزائرية وعدم وجود أية تجزئة،
   5 ــ جبهة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الجزائري بأكمله،
   6 ــ وقف إطلاق النار بعد التوصل إلى اتفاق .
 في يوم 20 / 05 / 1961 عاد الطرفان المتفاوضان إلى إيفيان ( Evéan )، وبعد جولات عديدة تعثرت كل الجهود وباءت بالفشل الذي أدخلها إلى النفق المسدود بسبب احتجاج الوفد الجزائري على المساس بالوحدة الترابية؛ وتوقفت المحادثات يوم 13 / 06 / 1961، ثم استئنفت يوم 20 / 07 / 1961 بلقران   ( Lugrin ) وتوقفت مرة أخرى، بعد أسبوع يوم 28 / 07 / 1961. وكانت هذه المفاوضات تمر بمخاض عسير ولا تكاد تبدأ حتى تتوقف بمراوغة الفرنسيين ومراهنتهم على مشكل الصحراء، وكانت صائفة 1961 التي شهدت تلك المفاوضات مليئة بالهواجس والحذر الشديد الذي ساد كل تلك الإتصالات، وطبع كل المحادثات التي أجراها الوفدان المتفاوضان.
  تجدد استئناف المفاوضات في مدينة ( بال ) بتاريخ 28 ـ 29 / 10 / 1961، وكانت هذه اللقاءات سرية، وبرمجوا لقاءً آخر ليوم 09 / 11 / 1961، وبعد شهر التقى سعد دحلب و( لويس جوكس ـ ( Louis Joxe ، يوم 09 / 12 / 1961، وكان موضوع الصحراء دائما في صدارة أي لقاء، وتباحث الرجلان حول وضع البدو الرحل لقبائل الطوارق وقبائل الرقيات بتندوف؛ بالإضافة إلى التطرق إلى شؤون الأقلية الأوروبية ومعالجة قضايا أخرى خَيَّمَ عليها جو التفاهم والإنسجام والتوافق. أثمرت تلك اللقاءات ـ على ما كان فيها من عسر وتشنجات ـ التوصل إلى لقاء لي روس ( Les Rousses ) الهام الذي تم بتاريخ 11 إلى 19 / 02 / 1962 والذي كان لقاءً فاصلا وفارقا في تاريخ التفاوض الجزائري ـ الفرنسي، وكان مرحلة متميزة تُوِّجَتْ بالإتفاق على النصوص التي صاغها الطرفان واتفقوا عليها، على أن يتولى كل طرف تقديمها إلى حكومته.  على إثر هذا الإتفاق اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الخامسة من 22 إلى 27 / 02 / 1962 بطرابلس؛ وتدارس أعضاؤه مضامين الاتفاق، وحظي بالتصويت الذي كاد يكون إجماعا، وامتنعت عن التصويت قيادة الأركان العامة: ( العقيد هواري بومدين وقائد أحمد وعلي منجلي)، بالإضافة إلى مختار بويزم ( ضابط ) من الولاية الخامسة.
 في النهاية جرت المحادثات الأخيرة بـ: ( إيفيان ) من 07 إلى 18 مارس 1962، وكان الوفد الجزائري برئاسة كريم بلقاسم وعضوية كل من: محمد الصديق بن يحي وسعد دحلب ولخضر بن طوبال والطيب بولحروف وامحمد يزيد والعقيد مصطفى بن عودة والصغير مصطفاي ورضا مالك؛ وكان التوقيع على اتفاقيات إيفيان الشهيرة، مساء يوم 18 مارس 1962 على الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، وقعها عن الجانب الجزائري الزعيم البطل كريم بلقاسم رئيس وفد الحكومة المؤقتة، ووقعها عن الجانب الفرنسي ( لويس جوكس ـ  ( Louis Joxe، وبعد دقائق قليلة من التوصل إلى تحقيق ذلك التوقيع التاريخي الذي أنهى المأساة الطويلة وأوقف مسلسل المذبحة الظالمة، أذاع الرئيس يوسف بن خدة من تونس الكلمات الخالدة: ( باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبتفويض من المجلس الوطني للثورة الجزائرية أُعْلِنُ وقف إطلاق النار في كافة أنحاء التراب الجزائري، ابتداءً من 19 مارس 1962 على الساعة الثانية عشرة، آمر باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كل قوات جيش التحرير الوطني المكافحة بوقف العمليات العسكرية والإشتباكات المسلحة على مجموع التراب الوطني .. ).
مفاوضات مدقّقة
  كان هذا اللقاء الختامي حاسما وتميز بالإرادة المشتركة بين الطرفين لتسوية كل الخلافات، والإتفاق النهائي والشامل لتصفية كل الملفات التي ظلت في السابق تراوح مكانها؛ وجاء 18 من مارس للتوقيع على الإتفاقيات المضنية التي أخذت وقتا طويلا وجهودا ثمينة؛ وشهدت محطات ومنعرجات متنوعة فيها الأخذ والردُّ والتطابق والخلاف بين وجهات النظر، وكانت معركة دبلوماسية نافح فيها الطرف الجزائري بحنكة واقتدار عن تقرير مصير بلده ومصالح شعبه ووحدة تراب وطنه أمام غطرسة استعمار استيطاني جائر، وشراسة عدوان ماكر مسلح بكل صنوف المكائد والخداع والأطماع إلى آخر لحظة من مسار التفاوض العسير.       
  من واقع تلك المعركة السياسية، كان الوفد الجزائري يقف على أرض صلبة أثناء خوض مفاوضاته، وكان ثابتا في إبداء ملاحظاته بكل سيادة أَوْ رفض ما لا يتناسب مع قناعاته السياسية ويتعارض مع مصير شعبه ولا يحقق مصلحة بلده ؛ بَلْهَ أنه لم يقبل بالإملاءات أو الحلول الملغمة أو التورط في الأخذ بالأفكار الجاهزة التي تُمَرَّرُ بوساطة الإيحاء والتسريبات التي لا يسلم منها مثل ذلك النوع من اللقاءات التي تتطلب الحذر واليقظة .
  كان أعضاء الوفد الجزائري من طراز نادر، ومن نخبة أَنْضَجَتْ خبرتها الفنية جبهة وجيش التحرير الوطنيين، وأَعَدَّهَا القدر الحكيم إِعْدَادًا خَالِصًا لِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ، وللقيام بتلك المهمة، كما أعدَّ من قبلها رجالا من طينة أخرى ليسوا كغيرهم من بقية الرجال، كانت مهمتهم الوحيدة التي لا يستطيعها سواهم، هي الإعداد للثورة، والحفاظ على سرية توقيتها، ثم تفجيرها في موعدها المقدور الذي كان ولا يزال علامة صادقة على صدقهم وإخلاصهم وإيمانهم المطلق بحتمية تخليص الشعب الجزائري من غبنه ومحنته، وإنقاذ بقيته الباقية من المذبحة المتواصلة على مدى أكثر من قرن وربع، حافلة بالإعتساف والإبادة والإستئصال.
 إذا كان الرجال الذين فجروا الثورة قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وضحوا بأنفسهم، وهي أغلى ما يمتلكون، ووضعوا أرواحهم بإرادتهم وباختيارهم على مذبح الحرية، وواجهوا عنجهية الإستدمار، ولم يأبهوا لاستقوائه بالحلف الأطلسي ولا بآلته العسكرية التي تَعَوَّدَ على استخدامها لقمع الشعوب الزائغة عن أمره، والبطش بِرَادَةِ التحرير والتنكيل بهم؛ فإن الوفد الجزائري المفاوض ـ المتمرس سياسيا ودبلوماسيا ـ قد كان بدوره أهلا للمهمة الوطنية المنوطة به، وكان في مستوى التحديات التي شهدتها المعركة السياسية لاسترجاع السيادة الوطنية، وتخليص الجزائر من محنتها التي طال ليلها، إِلَى أن أَذِنَ الله لمخاض الثورة أن يسفر عن فجره الجديد، وتتجلى بعده ملامح النور تنساب من بين طيات الغبش الكثيف ببقايا الظلمة الآفلة .
 بعد أن تحقق الأمل وجاء نصر الله الذي طالما راود الأمة الجزائرية، عَمَّتِ الفرحةُ والإبتهاجُ في طول البلاد وعرضها، وانتشر الخبر السَّارُ انتشار البرق في كل المدن والقرى والأرياف .. وراحت الفرحة الكبرى تطرق كل البيوت، وَتَغَيَّرَ واقع الشعب بتحرره من خوفه .. وتعانق الناس يتبادلون التهاني بانتهاء الكابوس وزوال المظالم؛ وراحوا يتطلعون إلى عهد جديد يختلف عن ماضيهم البائد بظلمه وطغيانه.
 بدوره احتفل جيش التحرير الوطني في مواقعه التي لم يبرحها، وظل مرابطا في ثغوره، والإصبع على الزناد تحسبا لأي طارئ، وكانت احتفالات جيش التحرير في مراكزه في الجبال لا تقل فرحتها عن فرحة الشعب في كل أنحاء الجزائر. كانت وحدات جيش التحرير التي حققت المعجزة تعرف أن الثمن كان باهظا، وأن المسؤوليات الآتية بعد هذا اليوم الأغر ثقيلة وتتطلب مرة أخرى كافة الجهود للحفاظ على وحدة الشعب الذي حقق بفضل الله هذا الفوز المبين.  كما راهن جيش التحرير على تحقيق الإنتصار، راح يراهن على حماية كل المكاسب، وتكفل بمعية الشعب على إقامة صرح الدولة الجزائرية الفتية التي شهدت بدورها مخاضا من نوع خاص، أثناء صائفة 1962 وَلَكِنَّ الله سَلَّمَ .

مواجهة تداعيات ظرف

بعد تلك المرحلة المتعثرة إلى حد ما، نهضت الدولة بكل الأعباء والواجبات التي كانت تتطلبها تلك المرحلة. وتكفلت بإيجاد الحلول المناسبة والسريعة لبعض الأوضاع الإدارية والفراغات القانونية، وواجهت الكثير من الثغرات لغياب القانون الواجب التطبيق؛ وتوازت مع كل تلك الإشكاليات معركة البناء والتشييد عبر التراب الوطني، وتجديد هياكل وبناء المؤسسات التربوية في بعض المناطق التي لا توجد بها مرافق تعليمية، استعدادًا للموسم الدراسي 1962 ـ 1963 ؛ فضلا عن تشكيل وتنظيم أجهزة الأمن والدرك الوطنيين، لأنها هي الوجه الجديد الذي يحفظ النظام العام ويحرس المؤسسات الرسمية، ويسهر على حماية مكاسب الشعب. بالتدرج ومع فرحة الزمن الجديد، تحققت منجزات كثيرة، وتَأَسَّسَتْ أُولَى وسائل الإعلام المكتوب جريدة: ( الشعب ) بتاريخ 11 / 12 / 1962 ورفعت الجريدة الفتية التحدي إلى جانب التلفزيون الذي رُفِعَتْ على مبناه الراية الوطنية يوم 28 / 10 / 1962 ؛ وكان التحدي في محله، ولم يتوقف البث للحظة واحدة، على الرغم من كيد الكائدين وفخ المؤامرة الإستدمارية التي كانت ترمي إلى شل مؤسسة التلفزيون .
 ذلك هو يوم التاسع عشر من مارس الذي كان وسيظل يوما مشهودا في تاريخ الكفاح الجزائري، لأنه يمثل آخر محطة من الهيمنة الإستيطانية التي انكسرت شوكتها العسكرية الباغية في جزائر البطولة والمفاداة .. جزائر الشهداء الذين كانوا ثمنا لحرية الجزائر بدمائهم الطاهرة الزكية وأشلائهم المتناثرة والمزروعة في كل فجاج الجزائر وشعابها .. فالشهداء وحدهم الخالدون في الذاكرة الوطنية. وحدهم ـ دون سواهم ـ من يستحق التمجيد والإحترام والتقدير والانحناء ؛ وهم وحدهم الاستثناء الذي تتصاغر أمامه كل الاستثناءات ..وهم وحدهم الأحياء عند ربهم يرزقون، يحترمهم حتى الموت فلا يطالهم .. الشهداء هم الأمانة التي يجب أن تُصَانَ في كل قلب حي، ومن تنكر لتضحيات الشهداء فهو الخائن الذي نأخذ حذرنا منه ونحترس من كيده وتربصاته.

 الحلـقـة  و الأخيرة 2