طباعة هذه الصفحة

دمـــوع الصمــت

أوسماعل إيمان عبد الحكيم

كما الاعصار جاء لقاءنا مفاجئا، عاصفا بهواجس الروح المتصارعة بين الشوق ولوعة الفراق، وبين الاعجاب والاحتقار . شعور بالصدمة تعقبه موجة من الفرح الحزين تحت زخات المطر الراقصة، التي ترتطم بالأرض المبللة محدثة صوتا رخيما، كان كافيا ليكسر زجاج الصمت الذي ساد لوهلة بيننا. عيون شاخصة، تعلوها حواجب مشدوهة، وشفاه مذهولة، ووجنات تخفي احمرارا خجولا، وأيدي ترتعش اضطرابا، وقلبان يخفقان وجعا، حتى أرجلنا لم تكد تحملنا لهول اللحظة، وكأننا خارج دائرة الزمان والمكان. كل شيء فينا يشيء بما يختلج  النفس من الجوانح، ولكن لسانانا لم يجرؤا على النطق ببنت شفة، فما بيننا من مشاعر فوق طاقة الكلام.
قد يراوغ اللسان، ويخفي أشياء ويظهر أخرى ويداعب الكلمات، ويناور بها بين الهجوم والدفاع، ثم يقذفها في مرمى الخصم ليسجل عليه أهدافا كلامية وتشعره بالنصر النفسي على الآخر إلى حين، لكن لغة الحواس الصامتة لا تعرف المواربة والمغالطة، خاصة عندما تقف أمام لحظة الفجأة، وتتسمر أمام صدفة القدر، فتفيض بكل المعاني، إلا الكلام.
جاع الصمت بيننا، دون أن يلقمه أي منا بكلمات تفنيه للحظات.
@ ... من يبدأ أولا؟
 كلانا يرفض أن يستسلم للآخر أو يتنازل ولو بـ»سلام» تفتح الأبواب الموصدة، وتلقي بأشرعة الجسور المهترئة، لعلّ زهور المحبة الذابلة تعبرها بسلام، فكلانا يخشى أن تفترس وحوش الضغينة براءة الذكريات الجميلة على الطرف الآخر من القلوب المشمعة. وعلى غفلة مني، تفلت دمعة محترقة من سجون مقلتي، أحاول عبثا إلقاء القبض عليها على عتبات جفوني، أن أبتلعها بأشفاري المدعجة بالسواد. أقوم بحركة سريعة من ابهامي لعرقلتها وتبديدها على وجهي المتألق بياضا، تاركة خصلة من شعري تنسدل على خدي لإخفاء جريمة «إبادة الدمعة». تتجمع الدموع في مقلتي بكثافة لتحتج على جريمة الإبادة تلك، فتنزلق على خدي معرية ضعف امرأة أمام رجل لطالما استمتعت بتحديه، ولكني الآن أحتسي كأس الهزيمة التي سعيت مرارا أن أسقيه منه. بكيت بحرقة وبألم ليس تأثرا هذه المرة بصدمة اللقاء ولكن لمرارة الإحساس بالخيانة، لقد غدرت بي دموعي ووشت بي جوانحي، وفضحتني أمامه.
@ «هو الآن ينظر إليّ بصغار وشماتة»
قلتها في نفسي وأنا أرفع رأسي ببطء مقصود، محاولة أن أتلمح معالم وجهه من خلف خصلة شعري التي ينفذ منها ضوء باهت، فقط لأستقرئ خوالج نفسه من نظرات عينيه. ودون أن يغادر صمته، وضع يده في جيب سترته، وسحب منديلا أبيضا مطرزا بخيوط وردية، ومده إليّ بعد أن انقشعت من وجهه سحب التوجم والدهشة، وارتسمت على شفتاه ابتسامة الرحمة. وسرعان ما أشرق وجهي بالسعادة وأنا أرى بعنقه القلادة الفضية اللامعة التي قدمتها له بيدي ذات يوم، ودونما أدري بادرته بالسؤال «أليست هذه هي القلادة التي أهديتك إياها منذ عشر سنوات؟»
أومأ بالإيجاب دون أن يتكلم، مفضلا التحصن بقلاع الصمت، فلا يمكن أن يأمن غدر امرأة مزاجية، غير أنه رمق خاتما موضوعا عى إصبع في يدي اليسرى، فتسللت الغيرة إلى نفسه، وبدل أن يسألني عن سرّ الخاتم، رمى سنارة الكلمات ليصطاد بها الحقيقة، و قال لي مخفيا غيرته:
- مبروك
- على ماذا؟
- يبدو أنك قررت أخيرا تطليق حياة العزوبية.
فاجأني هجومه المباشر فرديت باستنكار كمن يدفع عنه تهمة:
- من قال لك هذا؟
ثم واصلت بعد أن انتبهت لغيرته، وقد أسعدني احتفاظه بالقلادة طوال هذه الأعوام:
- لا زلت كما عهدتني بالأمس.
لم يكن يدري لماذا كان مسرورا بهذه الإجابة، رغم أنه قرر أن ينسى ذكرى امرأة هجرته لبناء «مستقبلها» بعدما تعاهدنا على البقاء معا للأبد، وقرأ كلامي «لا زلت كما عهدتني من غدر وخيانة ورقص على أوتار المشاعر»، ثم نظر مجددا إلى الخاتم الذي يعانق إصبعي وسألني مشككا:
- وماذا عن هذا؟
- ليس سوى جدار افتراضي أحمي به نفسي من كل طامع أو طامح.
بانت من ثغره ابتسامة اطمئنان لما سمع، وأحس بأنني مازال فيني بقية من وفاء، ثم قال لي مستفزا:
- أنت لن تتزوجي أبدا.
انزعجت من كلامه وشعرت بأنه يطعن في أنوثتي، فسألته بحدة دون أن أستبق الأمور:
- ماذا تقصد؟
رد عليّ بهدوء كمن يعرف دواخل نفسي:
- منذ كنت طالبة وأنت تحلمين بأن تصبحي كاتبة لامعة، فالزواج بالنسبة إليك مشروع مؤجل، لأنه قد ينسف أحلامك و طموحاتك وأو على الأقل سيكبحها ويعرقلها، ولكن السنين تمضي وقد تتجاوزك.
فهمت من كلامه بأنه يلمح إلى كوني على عتبة العنوسة، فاستجمعت ثقتي بنفسي ورديت بتحد:
- أعشق حريتي، وأرفض أن أكون مجرد ظلّ لرجل.
صمتت لبرهة ثم واصلت:
- الزواج يقيد حريتي، يقتل طموحاتي، كثيرات هن من حكم عليهن الزاج بالموت البطيء. بالإختفاء وراء رداء رجل ... فقدن حيويتهن وتألقهن، وصرن لا يجدن سوى ثقافة الطهي،  الغسيل، وتربية الأطفال، لو كنت تزوجتك قبلا، هل كنت الآن وصلت إلى ما وصلت إليه؟
وأضفت بتأثر وعصبية:
- أبدا سيدي المحترم، ما كنت الآن كاتبة، ولما كنت قبلت أن أكون ما أنا عليه الآن، غيرتك كانت ستدمر حياتي، كانت ستقضي على أحلامي ...
وأضفت:
- عفوا سيدي نحن لم نخلق لبعض، قد نصلح أن نكن زملاء وربما أصدقاء، لكننا لا نستطيع أن نعيش تحت سقف واحد.
ابتسم ابتسامة ساخرة ثم عقب عليّ بحدة:
- ولهذا غدرت بي وغادرت إلى إسبانيا دون وداع.
- أنا لم أغدر بك أبدا، فقط لم تكن لدي الشجاعة لأقول بأن طريقانا مختلفان، لقد فكرت في الأمر مليا، ووجدت أن ارتباطنا مع بعض لن يكون في مصلحة أحدنا، لا شيء يجمعنا سوى عواطف بائسة، وصدف نسج خيوطها القدر.
- والقضية ..
قضية حب، غيرة ودموع صمت.