تمهيد:
إن ضخامة العواقب المدمرة الناجمة عن مخلفات الحرب المتروكة من قبل فرنسا، كانت ذات أضرار نفسية مرهبة، حيث وجدت تجمعات سكنية محاصرة ومعزولة بين الحدود والخطوط الملغمة، أين سجلت حوادث متعاقبة ناجمة عن انفجار الألغام عند مرور المدنيين أثناء القيام بنشاطاتهم اليومية المختلفة.
I وصف خطي شال وموريس:
في حملته الشرسة الرامية إلى خنق الثورة التحريرية الجزائرية أنشأ الجيش الاستعماري الفرنسي خطين ملغمين مكهربين على امتداد الحدود الجزائرية الشرقية والغربية، إضافة إلى الحواجز الطبيعية المتمثلة في البحر الأبيض المتوسط شمالا والصحراء جنوبا. وحملت هذه الخطوط المشؤومة إسم مؤسسيها “شال” و«موريس”.
أسند “أندري موريس” مهمة إقامة الخطوط الملغمة لثلاث عشرة(١٣) كتيبة هندسية وحدد تاريخ ٣٠ سبتمبر ١٩٥٨ موعدا لنهاية الأشغال بها، حيث كان امتداد هذه الخطوط كما يلي:
ـ الحدود الشرقية: من عنابة إلى غاية نقرين.
ـ الحدود الغربية: من مرسى بن مهيدي إلى غاية بشار
الأهداف المرجوة:
الأهداف السياسية:
ـ عزل الثورة الجزائرية وحصرها في حدودها الداخلية.
ـ خنق وإخماد صدى الثورة الجزائرية الذي استمر في الانتشار بالخارج.
الأهداف العسكرية:
ـ القضاء على الإمداد اللوجيستيكي للثورة (نقل الأسلحة، الذخائر والعتاد) المنظم انطلاقا من الدول المجاورة؛
ـ إعاقة ومنع إعادة تشكيل الوحدات المقاتلة لجيش التحرير الوطني انطلاقا من القواعد الخلفية الشرقية والغربية؛
ـ عزل الهيئات القيادية للثورة الجزائرية ومنعها من الاتصال بالوحدات المقاتلة في الداخل.
الأهداف الاقتصادية:
حماية الاقتصاد الاستعماري من خلال:
ـ منع تخريب خطوط السكك الحديدية على امتداد المناطق الحدودية التي تستغلها القوات الاستعمارية في إمداد وحداتها بالجنوب، وكذا نقل المواد الأولية المستخرجة باتجاه المناطق الصناعية؛
ـ حماية منجم الحديد والفوسفات بمنطقة “ونزة” بالناحية الشرقية ومناجم الفحم بالناحية الجنوبية ـ الغربية “القنادسة”.
مسار الخطوط الملغمة:
على الحدود الشرقية:
ـ خط موريس (١٩٥٧ - ١٩٥٨) يمتد هذا الخط من عنابة إلى نقرين، مرورا بسوق أهراس، تبسة، الماء الأبيض، بئر العاتر على مسافة ٤٦٠ كلم.
ـ خط شال (١٩٥٨ - ١٩٥٩) ويمتد من أم الطبول إلى سوق أهراس مرورا بالعيون، القالة، عين العسل، الطارف، بوحجار، ويمتد بعدها نحو الجنوب موازيا لخط موريس مرورا بالكويف إلى غاية نقرين.
على الحدود الغربية:
ـ خط موريس (١٩٥٨) وخط شال (١٩٥٩) وهما خطان متوازيان وأحيانا متداخلين إذ تم إقامة خط شال لتدعيم خط موريس ويمتد بالغرب والجنوب الغربي للحدود الوطنية على طول ٧٠٠ كلم من مرسى بن مهيدي إلى بشار مرورا بالعريشة، المشرية، عين الصفراء، جنين بورزق، بني ونيف وإلى غاية بشار.
II مكافحة الألغام أثناء الثورة التحريرية:
كانت الخطوط الملغمة، مسحا لمعارك مستمرة من بداية إنشائها. فبالموازاة مع تطويرها تدريجيا من طرف القوات الاستعمارية، لجأ عناصر جيش التحرير الوطني إلى تكتيكات مختلفة من أجل عبورها، بدءاً بالالتفاف حولها في بداية الإنجاز، ثم بحفر الأنفاق إلى غاية العبور بالقوة باستخدام وسائل قطع الأسلاك والحشوات المتفجرة المطولة (بنغالور).
IIIنزع الألغام بعد الاستقلال:
٠١. المرحلة الأولى (١٩٦٣ - ١٩٨٨):
كانت استجابة الجزائر لمشكلة الألغام فورية، فمنذ فجر الاستقلال، وضعت الجزائر في صف أولوياتها، وبالتحديد في المادة ١٠ من دستورها الأول “إزالة كل مخلفات الاستعمار” مترابط غير قابل للتفريق، لإقامة دولة ذات سيادة تضمن أمن الممتلكات والأفراد في فضائها الإقليمي. انطلاقا من هذا الهدف، قررت الدولة الجزائرية بداية عمليات التطهير للمناطق الملغمة بغية القضاء على هذا الخطر المحدق بالسكان. ولهذا الغرض كلف الجيش الوطني الشعبي منذ ١٩٦٣ بمهمة نزع الألغام على الحدود، بالرغم من عدم خبرته في ميدان نزع الألغام، غياب الوثائق ومخططات وضع حقول الألغام.
حصيلة المرحلة الأولى (١٩٦٣ - ١٩٨٨):
ـ نزع وتدمير ١٢٠. ٨١٩. ٧ لغم مضاد للأفراد.
ـ تطهير ٥٠٠٠٦ هكتار من الأراضي الملوثة من الألغام.
عند انتهاء أعمال نزع الألغام للمرحلة الأولى (١٩٦٣ - ١٩٨٨)، فإن الأراضي الواقعة في مسار الخطوط الملغمة تم تصنيفها إلى:
ـ مناطق منزوعة الألغام كليا: يتعلق الأمر بـ٥٠٠٠٦ هكتار من الأراضي المطهرة حدثت بها حملتان أو ثلاث من عمليات التطهير ولم يتم إثرها تسجيل أي انفجار للغم أو لبقايا الحرب؛
ـ مناطق تتطلب معالجتها من جديد: يتعلق الأمر بالأراضي التي تمت بها حملات للتطهير، ولكن سجلت بعدها دلائل وحوادث تدل على وجود الألغام؛
ـ مناطق لاتزال ملغمة: يتعلق الأمر بالأراضي التي تمر السدود عبرها، لكن لم تتم ممارسة أي عمل تطهيري عليها نظرا لصعوبة التضاريس؛
ـ منطقتين ملغمتين محتفظ بهما كمعلم تاريخي: ويتعلق الأمر بجزءين من خط “شال”، محتفظ بها على حالتها، محمية بدقة ومصونة في مناطق تذكارية وإحيائية تندرج ضمن إرث حرب التحرير الوطنية.
الموقع الأول متواجد بالشرق، في المنطقة المسماة دبدوبي الرميلة ببلدية الكويف (تبسة)، بطول ١٥٠ متر وعرض٢٠ مترا. والموقع الثاني بمنطقة المنابهة في ولاية بشار بطول ٨٠٠ متر وعرض٢٥ مترا. هذان الموقعان تم تطهيرهما بصفة كلية في إطار تطبيق بنود اتفاقية “أوتاوا” ثم أعيد إنشاؤهما كما في الحالة الأصلية، بعد نزع المشاعل والحشوات المتفجرة من الألغام.
٠٢. المرحلة الثانية (ابتداء من ٢٠٠٤):
اتفاقية “أوتاوا”:
في ٠٣ ديسمبر ١٩٩٧ كانت الجزائر من بين الدول الموقعة على اتفاقية حظر استخدام، تخزين، إنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وحول تدميرها، والمعروفة باسم “اتفاقية أوتاوا”. ثم صادقت الجزائر رسميا على الاتفاقية في ١٧ ديسمبر ٢٠٠١، وبالتالي صارت هذه الأخيرة سارية المفعول بالنسبة إليها ابتداء من ٣٠ أفريل ٢٠٠٢.
وطبقا لترتيبات الاتفاقية، لاسيما في المادتين ٠٤ و٠٥، إلتزمت الجزائر بالعمل على محورين رئيسيين:
ـ تدمير جميع الألغام المضادة للأفراد الموجودة بحوزتها (ترتيبات المادة ٠٤)؛
ـ التطهير الكلي لأراضي التراب الوطني من كل تجهيزة متفجرة قد تشكل خطرا على السكان (ترتيبات المادة ٠٥).
تدمير مخزون الألغام المضادة للأفراد:
انطلقت عملية تدمير مخزون الألغام المضادة للأفراد بإحصاء جميع الألغام الموجودة:
ـ لدى الوحدات؛
ـ في المخازن لدى المؤسسات المركزية والجهوية.
في هذا الإطار تم إحصاء ١٦٥٠٨٠ لغم من عشرة (١٠) طرازات مختلفة، تقرر تدمير منها ١٥٠٠٥٠ لغم، والإحتفاظ بعدد ١٥٠٣٠ لغم للأغراض التدريبية، ثم تم تخفيض هذا الأخير فيما بعد إلى ٦٠٠٠ لغم.
تمت عملية التدمير على مستوى الميدان المركزي للجو بحاسي بحبح/ ن.ع١، الذي جهز خصيصا لهذا الغرض.
التدمير الكامل للألغام تم عن طريق:
ـ سحق الأجزاء الخشبية والبلاستيكية للألغام التي تحتوي على هذه العناصر؛
ـ إذابة الأجسام المعدنية للألغام؛
ـ التدمير بواسطة التفجير، لكل أنظمة تشغيل الألغام وكذا جميع الألغام التي لا يمكن فصل مكونها.
إشارة انطلاق العملية أعطيت من طرف السيد رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع الوطني يوم ٢٤ نوفمبر ٢٠٠٤، ومن ثم إستمرت العملية على إثنتي عشرة (١٢) مرحلة إلى غاية انتهائها رسميا يوم ٢١ نوفمبر ٢٠٠٤. وبذلك تكون الجزائر قد أوفت بالتزاماتها المندرجة في إطار المادة ٠٤ من إتفاقية «أوتاوا»، وذلك ستة (٠٦) أشهر قيبل انتهاء الآجال المقررة.
تطهير المناطق الملغمة:
من أجل الأداء المشرف لالتزام الجزائر في هذا الجانب، تقرر إعادة بعث عمليات نزع الألغام على الأشرطة الحدودية الشرقية والغربية إبتداء من شهر نوفمبر ٢٠٠٤، مع إسناد هذه المهمة إلى سلاح هندسة القتال لقيادة القوات البرية، الذي اكتسبت خبرة معتبرة في المجال خلال المرحلة الأولى.
حصيلة نزع الألغام منذ استئناف العملية في ٢٠٠٤:
انتهت أعمال التطهير المنفذة من طرف وحدات هندسة القتال بصورة نهائية عبر كامل التراب الوطني بعد تسليم آخر قطاع مطهر من الألغام إلى السلطات المدنية المحلية بإقليم الناحية العسكرية الخامسة، وذلك بتاريخ ٠١ ديسمبر ٢٠١٦. حيث بلغت حصيلتها العامة منذ استئناف العمليات في نوفمبر ٢٠٠٤ عدد ٨٥٤٫١٨٦ لغم مدمر، و١٢٤١٧ هكتار من الأراضي المطهرة والمسلمة إلى السلطات المدنية المحلية، موزعة كما يلي:
ـ بالناحية العسكرية الثانية: ٣١٠٧٧٧ لغم مدمر و٥٠٦٦ هكتار مسلمة إلى السلطات المحلية؛
ـ بالناحية العسكرية الثالثة: ٢٨٦٨٩٤ لغم مدمر و٣٩١١ هكتار مسلمة إلى السلطات المحلية؛
ـ بالناحية العسكرية الخامسة: ٢٥٦٥١٥ لغم مدمر و٣٤٤٠ هكتار مسلمة إلى السلطات المحلية.
يجدر الذكر، أن عمليات نزع الألغام قد انتهت بصفة رسمية يوم ١٦ فيفري ٢٠١١ بالناحية العسكرية الثالثة، يوم ٠٣ جويلية ٢٠١٦ بالناحية العسكرية الثانية، ويوم ٠١ ديسمبر ٢٠١٦ بالناحية العسكرية الخامسة. وتعتبر الألغام المدمرة بعد هذا التاريخ ألغاما منعزلة مكتشفة خارج مسار خطي «شال» و«موريس».
IV الخلاصة:
رغم الطبيعة الصعبة للتضاريس في بعض المناطق وتحرك الألغام بفعل الانجراف والعوامل المناخية، فإن وحدات هندسة القتال المكلفة بهذه المهمة نجحت في إنحاز العمل بكل احترافية طبقا للمعايير الدولية الخاصة بمكافحة الألغام، الشيء الذي سمح بإنهاء العملية أربعة (٠٤) أشهر قبل انقضاء الآجال الممنوحة لبلدنا في إطار إتفاقية «أوتاوا» والمحددة بشهر أفريل ٢٠١٧.
وختاما، فإن الخبرة المكتسبة من طرف نقّابينا والتطبيق الصارم لاحتياطات الأمن قد سمحت لوحداتنا بالقيام بالمهام المسندة لها على أحسن وجه، كما لم يتم تسجيل أي حادث خلال عمليات نزع الألغام.