طباعة هذه الصفحة

التنوّع والتجانس الاجتماعي الثقافي في جزائر الأمس واليوم

الإسلام في الجزائر مرجعية جامعة فوق العرق ولا يفرقها المذهب (الحلـقــة 03 والأخـــــيرة )

بقلم د. محمد العربي ولد خليفة

لم يظهر في المجتمع الجزائري طيلة ما يزيد على ألف سنة بعد الإسلام صراع مذهبي ديني في المجتمع. فقد نشأت الدولة الفاطمية 144-296هـ وعمّرت بضعة عقود أي 72 سنة ورحلت إلى خارج الجزائر، وكان المذهب الشيعي الفاطمي محصورا في السلطة الحاكمة التي خاطب أحد شعراء الحاشية رئيسها بقوله: «أحكم فأنت الواحد القهار»، وربما كان اليأس من التأطير المذهبي للمجتمع من أسباب رحيل الخليفة الفاطمي وجيشه إلى القاهرة التي تنتسب إليها الخلافة الفاطمية في تاريخ تلك الفترة. ونحن نرى أن تهويل ما يسمى المدّ أو التسرب الشيعي إلى الجزائر، قد يؤدي إلى إقحام الجزائر في جحيم الصراعات المذهبية الطائفية في البلدان التي نشأت فيها تلك المذاهب والانقسامات الطائفية وما وصلت إليه اليوم، بتحريض وتحريك وتدخل مباشر من القوى المهيمنة، بما فيها إسرائيل المستفيد المباشر من التشرذم والفتن والتدمير، إن الإسلام في الجزائر واحد في أصوله ومصدره الأول هو القرآن الكريم. ولم يحدث في الجزائر أبدا تعريف الأشخاص باسم مذهب أو دين معين، لا في الحالة المدنية ولا في بطاقة التعريف، كما هو الحال في بلاد أخرى، التي تسجل في تلك الوثائق الطائفة والمذهب، فضلا عن تسييس الإحصاءات والنسب الملغومة لانتماءات السكان وهو نوع من إبقاء النار مشتعلة تحت الرماد.

إن ماضي وادي ميزاب وحاضرها - الذي أشرنا إليه بإيجاز فيما سبق - بما فيها من مالكية وأباضية وشعانبة وميزاب تبرهن على أن أسباب ما يحدث من توتر ظرفي - (وهو يحدث داخل المجموعتين) ـ هو اقتصادي، يتعلق بالتنمية وفرص التشغيل للشباب. كما ينبغي أن نلاحظ أن شريحة كبيرة من الشباب لم تعد كالسابق على نفس الانضباط والطاعة للهياكل التقليدية المعروفة في غرداية، مثل الولايات الأخرى في مناطق أخرى من الجزائر، بسبب انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وظواهر العولمة الأخرى.
كما يرجع الاحتجاج أحيانا إلى ضعف أداء السلطات المحلية، ليس بسبب سوء النية، ولكن بسبب ثقل جهازها البيروقراطي ونقص المبادرة، بالإضافة إلى الغياب النسبي لبعض الأحزاب التي تركت مهام التأطير والتوضيح إلى مصالح الأمن من الشرطة والدرك وأخيرا الجيش، بينما مهام هذه الهيئات هو فقط السهر على حفظ الأمن والنظام العام والحدود، في حالة الجيش الوطني الشعبي الذي لا يتدخل في الشأن السياسي ولا علاقة له بالتيارات الإيديولوجية الناشطة في الجزائر.
وقد وجد المتطرفون المتخفون وراء الإسلام، الفرصة سانحة لإذكاء نار الاحتجاج وتوجيهه ضد الدولة، والتوجه نحو تشجيع بؤر دائمة للتوتر وإنهاك هياكل الدولة المحلية والمركزية.
وقد تم في البداية اختيار منطقة عين صالح أثناء اتجاه وزارة الطاقة سنة 2015 نحو استغلال shale gaz, gaz de schiste، الغاز الصخري في منطقة معروفة بتقاليدها وزواياها العريقة وتاريخها النضالي ضد الكولونيالية، ومن أبطالها الذين كبدوا جيوش الاحتلال الفرنسي خسائر فادحة: الشيخ آمود، وبقيت منطقة الجنوب صامدة وتحت الحكم العسكري حتى هزيمة جيوش الاحتلال. كما لا ننسى أنها كانت ضحية التجارب النووية الفرنسية التي بقيت مضاعفاتها الكارثية على الإنسان والحيوان والطبيعة إلى اليوم.
من موقع الملاحظ لشؤون الوطن، لابد من الإشارة إلى أن مشروع استخراج الغاز الصخري لم يكن الهدف منه الإضرار بالمواطنين في تلك المناطق وخاصة مياه الشرب الثمينة. ومن المعروف أن بحرا كبيرا من المياه الجوفية في منطقة تمنراست، تيميمون، ميتليلي، أدرار، توقرت، غرداية وورقلة، يمكن أن يحول ما يسمى الصحراء إلى ملايين الهكتارات من جنات فلاحية وحدائق خضراء.
أقول إن النية لا تكفي لطمأنة مواطنينا هناك عن أهداف مشروع الغاز الصخري، إذ كان من المفروض أن يسبق ذلك حوار مع السكان، خاصة من خلال الهيئات والجمعيات والهياكل المحلية ولها ممثلون في كثير من المؤسسات الوطنية، لا ندري هل تمت استشارة هذه الهيئات، وبالتالي إشراكها قبل بداية تنفيد مشروع الغاز الصخري.
ويرى عالم الاجتماع ناصر جابي، في حوار مع صحيفـة الوطن El Watan بتاريخ 09 / 01 / 2017، أن من أسباب تفاقم الاحتجاجات ضعف ما يسميه الوساطات الاجتماعية والسياسية Intermédiations، وأن النخب الرسمية تعترف بالأحزاب والجمعيات والنقابات، لكنها لا تعمل على إشراكها كوسيط لحل ما يحدث من توترات واحتجاجات. ومع الاحترام لرأي الأستاذ وتموقعه السياسي، فإن رأيه بأن النظام يفضل التعامل مع الاحتجاجات العنيفة لأنها تخدم استمراريته ولا تقدم بدائل، ورجوع الباحث إلى أطروحة روني غاليسو René Gallissot عن دور الحركات الاحتجاجية باعتبارها مشتلة للنخب البديلة في المجتمع الجزائري، لا تتطبق على صيرورة المجتمع الجزائري.
إن التفسير الأقرب لأسباب ومضاعفات الحركات الاحتجاجية هو الذي يأخذ بعين الاعتبار التجربة التاريخية للمجتمع الجزائري خلال حقبة الاحتلال الكولونيالي وما اكتسبه من مسلكية أشبه بالمنعكس الشرطي للتعبير عما يراه إجحافا أو ظلما أو ما يسمى «الحقرة». وهي في رأيي ديناميكية إيجابية لشعب رفض دائما الخضوع وقول نعم... نعم عند من سمّاهم، وهم الأقلية، بـ «بني نعم... نعم Beni oui..oui» وهذه على أي حال وجهة نظر أخرى.
تمثل ولاية ورقلة إحدى نقاط تثبيت الاحتجاج تحت عنوان المطالبة بالتشغيل وما يسمى المظاهرات المليونية والاحتجاج على تفضيل القادمين من الشمال لشغل الوظائف في أغلب المهام والمطالبة بالتنمية في منطقة توجد بها ثروة الجزائر الرئيسية، وهي على مقربة من أحد أكبر قواعد النفط وهو حاسي مسعود وقاعدة استخراج الغاز الطبيعي في حاسي الرمل، بالإضافة إلى أنها من أكثر مدن الجنوب كثافة سكانية أي ما يزيد 140.000 مواطن.
ولا يخفى أن هذه الولاية تحظى بعناية كبيرة من طرف الدولة، لحقها المشروع في التنمية مثل الولايات الأخرى ولقربها من الحدود غير المستقرة، بالنظر إلى الوضع في ليبيا وتونس ومالي مما أدى إلى مراقبة دقيقة للحدود وضعف أو انعدام التبادل التجاري مع تلك البلدان المجاورة.
خلاصة
على مؤسسات الدولة أن تولي هذه المنطقة ما تستحقه من اهتمام وعناية وهو ما أكد علية رئيس الجمهورية في كل مرة، وهو يعرف شخصيا هذه المناطق منذ أن كان قياديا في الثورة، أليس المجاهد عبد العزيز بوتفليقة هو عبد القادر المالي الذي فتح مع رفاقه في ثورة نوفمبر 1954 الجبهة الجنوبية؟.
أدرك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، منذ بداية عهدته الأولى، أن إنقاذ الجزائر من مخاطر الصراعات الأثنية وإشعال الصراعات بغطاء ديني، الذي أدى إلى الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، هو البداية بالوئام وإقناع الجميع بأهمية وضرورة المصالحة الوطنية. وقد حصل هذا المشروع المبتكر والشجاع، عن طريق الاستفتاء، على أغلبية ساحقة مهدت لانطلاق برامجه للتنمية والتحديث في كثير من قطاعات ومرافق الدولة.
ومن الإنصاف أن نذكر بأن الخطاب السياسي في نهاية التسعينيات، توزّع معظمه إما على تبادل التهم أو وصف الأزمة ومضاعفاتها على الدولة والمجتمع. بينما لم تدرك الفعاليات السياسية، أن المفتاح الحقيقي يتمثل في المصالحة مع الذات ومع التاريخ ومع الراغبين في السلم والعيش المشترك بين كل الجزائريين.
فمن النادر أن نرى في بلاد العالم الثالث وحتى المتقدم ديموقراطيا، رئيس دولة يصحب جنبا إلى جنب أربعة رؤساء سابقين، وتحمل مطارات وجامعات ومعالم أخرى أسماء قادة كبار كانت أسماؤهم وعهودهم موضوع جدل سياسي واصطفاف بين تيارات في المجتمع، منذ ما يزيد على ستين عاما، وهذا التصالح مع ماضي لا يمكن أن يحذف من مسيرة شعب وذاكرته موقف حضاري ينبغي أن يكون قدوة للآخرين. لقد كانت محنة الإرهاب خلال عشرية التسعينيات أكبر تهديد لتجانس وتلاحم ثقافي عريق بين الجزائريين، بعد كارثة الاحتلال الاستيطاني الكولونيالي الذي كان التهديد الأخطر لبقاء الجزائر على خريطة العالم.
كانت تلك المأساة، في نظر أغلب دول العالم وحتى بعض دول الجوار، مجرد مشاهد درامية للفرجة، في انتظار الانهيار النهائي للدولة الوطنية وأسس الجمهورية كما وضعها البيان المؤسس في الأول من نوفمبر 1954؛ جمهورية لا مكان فيها للأثنيات والطوائف والتطرف الديني. فالإسلام في صورته الشعبية رابطة روحية ثقافية نقية من العنف والكراهية للآخرين من أديان وثقافات أخرى. فأثناء المقاومة الشعبية وثورة التحرير، لم يحدث إطلاقا تدمير لأماكن العبادة الخاصة بالمسيحيين واليهود أو محاربة الفرنسيين لأنهم مسيحيون، إن كفاح الجزائريين عبر التاريخ كان دائما ضد المعتدين ومطلبهم الدائم الحرية والعدالة والتقدم، كما نجد مبادئها في بيان الأول من نوفمبر 1954 وهو خلاصة التجربة التاريخية للجزائر ومنهاج صالح اليوم وللمستقبل.