اجتاحتني رغبة عارمة حين زرت بيروت مطلع هذا الشتاء في أَن أزور مخيما للاجئين الفلسطينيين، لا كالتزام معنوي من لاجئة مثلي لمشاطرة صنو اللجوء في معاناة الاغتراب والتهجير بعيدا عن ربوع وثرى الوطن...الوطن هذه الكلمة الأكثر حميمية التي لا يعي ويدرك قيمتها إلا من فقدها أو اضطر للهجرة قسرا عن ربوعه. فما بالك إذا كان هذا اللقاء مع لاجئين مثلي حتى وإن اختلفت جغرافيا الوطن وخارطة المنفى، وكثرت الفوارق بين ملامح القوى المعتدية، يبقي اللقاء وحده كافيا لإثارة كل شجون الإغتراب والتهجير،خاصة مع تطابق أسباب اللجوء، متمثلة في احتلال الأوطان.
إن كان «إليوت» يرى أن انتزاع الطفل عنوة من حضن أمه، قمة التراجيديا الإنسانية في «الأرض اليباب» إلا أن «كافكا» زمجر صارخا بأنين متقطع في رائعته «مستعمرة العقاب» أن عمق المعاناة والمأساة الإنسانية تتجسد في اقتطاع الأوطان واحتلالها، ولعل أبرع من وصف حالة الاغتراب الوجودي والتشظي الوجداني هي حالة الاستعمار التي تحيل أصحاب الأرض مسوخاً مقتطعة من سياقها الوجودي هو «فرانتز فانون» في رائعته» معذبو الأرض» واصفا الاستعمار الفرنسي بالجزائر.
من هنا كانت لهفتي للقاء صنو اللجوء في معاناة الاغتراب والتهجير.
تحللت من مواعيدي، بل أقصيتها، وضربت بلقاءات إعلامية عرض الحائط و شددت رحال مخيلتي إلى مخيم صبرا و شاتيلا وقضيت ليلي أفكر وأتحسب لهول الزيارة الأولى، وفي الصباح الباكر تأبطت أحزاني وأحلامي معا ويممت وجهي شطر أهلي، فلسطينيو مخيم صبرا وشاتيلا، ذاك المخيم الذي يعاند الزمن وهو في أواخر عقده السابع.
كان أبو طارق، فدائي من تلاميذ القيادي الشهيد ماجد أبو شرار، رفقة هديل دليلنا بالمخيم الذي حفر اسمه بالذاكرة العربية والإنسانية معبراً عن مدى وحشية وهمجية الكيان الصهيوني الغاصب لارتباطه بالمجزرة الرهيبة التي حدثت في 16 سبتمبر/أيلول 1982 وخلفت ورائها 3500 شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء!
يضم لبنان أربعة عشر مخيماً فلسطينياً، ظلت مساحة كل منها على ما هي عليه، منذ تم إنشاؤها. وانتشرت هذه المخيمات في خمس مناطق (بيروت، طرابلس، صيدا، صور، والبقاع) وكل هذه المخيمات تأسست بعد نكبة 1948 وقبل نكسة 1967. وهي برج البراجنة وعين الحلوة والرشيدية والميومية ومخيما صبرا وشاتيلا والبص ونهر البارد والجليل (ويفل) ومار إلياس والبرج الشمالي والبداوي وضبية والنبطية.
وقد جاء في إحصائيات وكالة الغوث الدولية (الأونروا) في 31 مارس/ آذار 2003 أن:
- مجموع اللاجئين المسجلين في لبنان 390.498 لاجئا.
- مجموع اللاجئين المقيمين في داخل المخيمات بلغ 220.052 لاجئا.
- مجموع اللاجئين المقيمين خارج المخيمات بلغ 170.446 لاجئا.
المخيم أسسته وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) عام 1949 بهدف إيواء المئات من اللاجئين الذين تدفقوا إليه من قرى عمقا، ومجد الكروم، والياجور في شمال فلسطين بعد عام 1948.
يقع المخيم جنوب بيروت. فبعد مــرور شهور على النكبة ولما ازدادت الحاجة إلى وجود أمكنة للسكن تبرع سعد الدين باشا شاتيلا بأرض له، تعرف منذ ذلك التاريخ حتى اليوم بمخيم «شاتيلا».
أرض المخيم نصفها مؤجّر من قبل الأنروا، والنصف الثاني ملك لمنظمة التحرير الفلسطينية كان مخيم صبرا وشاتيلا وحده المتاح للزيارة، لتواجده بالعاصمة بيروت ولإمكانية دخوله دون تصاريح أمنية، عكس مخيم عين الحلوة الذي يقع بجنوب لبنان، ضمن مدينة صيدا الساحلية، والذى تبلغ مساحته كيلومتر مربع واحد، وعدد سكانه حوالي 80 ألف نسمة، أي ما يزيد قليلا على ثلث قاطني المخيمات الفلسطينية في لبنان( 36%) لذا يعتبر أكبر مخيم في لبنان من حيث عدد السكان. ويضم المخيم 8 مدارس، وعيادتان للأونروا، بالإضافة إلى مستشفيين صغيرين للعمليات البسيطة، هذا المخيم يتم تسييجه من طرف الدولة اللبنانية، لدواعي أمنية.
جهلي بالمدينة و تخومها انعكس على مستوى استيعابي للموقع الجغرافي لمخيم صبرا وشاتيلا ببيروت، لكني لاحظت أن حدود المخيم البائس تبدأ عند نهاية أحياء راقية، فميزة مخيم اللاجئين الفلسطينيين بالعاصمة بيروت هي البؤس والشقاء والفاقة.
أكثر من 9 آلاف لاجئ فلسطيني، محرومون من ممارسة أكثر
من 72 مهنة ووظيفة
لا تتجاوز مساحة صبرا وشاتيلا نصف كلم مربع، يقطنها أكثر من 9 آلاف نسمة، محرومون من ممارسة أكثر من 72 مهنة و وظيفة، ليس بإمكانهم الاندماج وسط بلدهم لبنان سياسيا واجتماعيا وقد اندمجوا أجسادا ومصيرا، بسبب وجودهم بالعاصمة المتعددة المذاهب الدينية والسياسية.
يتعايش اللاجئون الفلسطينيون مع الموت قدرا مقبولا عاديا لا يخيفهم و لم يعد يؤلمهم، على مساحة شاسعة تسيج مقبرة شهداء المجزرة، حيث دفن أكثر من ثلاثة آلاف شهيد، ولضيق المساحة العامة للمخيم أصبحت المقبرة منتزها على أديمه يمشي الناس وبطرفه نصب تذكارى يذكر بالشهداء والمجزرة.
الأزقة ضيقة جدا، يصعب السير فيها أو التجاوز، مررت ببعض الأزقة التي تلقفت الأشلاء المبعثرة، وحيث تكدس الشهداء، شعرت بالرهبة واعتصرني الألم، كيف يمكنني الدوس على تربة تخضبت بدماء الأطفال والنساء؟
تتطاول بنايات الفلسطينيين بفوضوية عمرانية واضحة، ليس لهم أمام ضيق المساحة الممنوحة لهم إلا ذلك التطاول غير المدروس، فليس للعمارات طابع منسق، وقد لاحظت وجود طابق مسقوف بالزنك.
عانى الشعب الفلسطيني الكثير من الظلم والجور وهدر الكرامة
يتوسط المخيم شارع مكتظ بالمحلات الصغيرة الباهتة، يعكس تواضعها دون شك المستوى المزري الذي يعيشه اللاجئون الفلسطينيون في ظل بلد يعتبرون جزءا من امتداده الجغرافي وعمقه الثقافي والإنسانى وبوجود هيئة أممية خاصة بهم وحدهم دون سواهم من لاجئي العالم.
قبل سنوات قليلة قلصت الأونروا منسوب هباتها للاجئين الفلسطينيين، وعمدت إلى غلق بعض المدارس وتسريح الموظفين رغم حاجتهم للرواتب ومعرفة الأونروا بهذا، لكن وأمام إصرار الفلسطينيين من سكان مخيم صبرا وشاتيلا تراجعت الأونروا عن الكثير من تلك القرارات المجحفة.
كان الوقت ضيقا، فساعة واحدة للزيارة حتما لا تكفي كي ألم بكل حيثيات الأحداث التي جرت بالمخيم ودفعت بالسلطات اللبنانية إلى جرف مخيم تل الزعتر واقتحام مخيم صبرا وشاتيلا بحجة وجود مسلحين وتسييج مخيم عين الحلوة وتضييق حرية سكانه المغبونين بفعل اللجوء قبل سواه من العواتيى، غير أني حظيت بلقاء العقيد أحمد عودة من الأمن التابع للسلطة الفلسطينية وحركة فتح.
بدا لي من خلال ما استعرضه العقيد من أدوار يتولونها لتأمين المخيمات والإشراف عليها، بلبنان يمنح للاجئين الفلسطينيين بطاقة لاجئ و يوصم جواز السفر بوصمة لاجئ ، تمنعه منعا باتا من الحراك بحرية وسلاسة بين دول العالم ولا يمكن لحامل وثيقة السفر هذه ولوج أي دولة باستثناء الجزائر والبرازيل وكوبا والشيلي.
ويحمل اللاجئون مسؤولية جل الانزلاقات الأمنية ويتم التعامل معهم على أنهم حالة أمنية بحتة.
تفرق دم اللاجئين الفلسطينين بين الشعوب العربية، وعلق دين العودة برقاب الأنظمة السياسية وتمزقت أواصر العائلات بين العواصم العربية المتاخمة للقدس المسلوبة. عانى الشعب الفلسطيني الكثير من الظلم والجور وهدر الكرامة ولعقود ولا سيما للأسف من بني جلدته العرب.
النضال من أجل الحرية
والعودة للوطن
اللجوء والكفاح من أجل الحرية وحلم العودة بكرامة وعزة نفس هي قواسمي المشتركة بيني وبين صديقي أبو طارق وهديل .. استحضار هذه القواسم بيننا كلاجئين يجعلني منطقيا أمام المقارنة بين القوتين المحتلتين وبين معاملة الدولتين المضيفتين.
اختلاف القوى الاستعمارية لا يمس الجوهر، فالاحتلال هو كل قوة استبدت بأرض شعب وانتهكت أعراضه واستباحت ثرواته وشردته من بلده، وحتما لا يختلف المغرب عن إسرائيل في هذا الفعل الشنيع، استحضرت قصف مخيم أم ادريگة والتفاريتي بطيران لا يراعي حرمة النساء والأطفال وعزلتهم، تفرست وجه الصمت و الخذلان العربيين المتماثلين في حالتينا، سواء سقط عشرة شهداء أو سقط ألف. وسواء سقطوا بالتفاريتي أو برام الله أو غزة وسواء قتلتهم إسرائيل أو قتلهم المغرب.
غير أن الجزائر تختلف جملة وتفصيلا عن لبنان وغيرها من دول الجوار الفلسطيني، التي للأسف لم تحسن وفادة عزيز قوم ذل. فعندما أقرأ أو أسمع عن ما حاق بصنو اللجوء في معاناة الاغتراب والتهجير من الفلسطينيين علي يد إخوتهم وأشقائهم العرب، أدرك كم أنت رائعة أيتها الجزائر شعبا وحكومة.
فقد فسحت الجزائر للاجئين الصحراويين من أراضيها دون تضييق أو حصار، وتوقفت عجلة العمران واستصلاح الأراضي عند تخوم المخيمات كي لا يشعر الصحراويون بزحف الجزائريين نحو جزء من ترابهم وقد خصصته سابقا لضيوفها.
أتاحت السلطة الجزائرية للشعب الصحراوي اللاجئ فرصة استقلاله بسلطته وقرارته في تأسيس وتسيير دولته وإن في المنفى، لم تتجاوز في يوم من الأيام الأجهزة الأمنية الجزائرية خصوصية الصحراويين، واعتبرت المخيمات دولة محترمة السياسة والإدارة مع مراعاة استثنائية الزمان والمكان.
شرعت الجزائر مستشفياتها لمرضى اللاجئين الصحراويين، يعالجون بعناية ومجانية، بمتابعة صحية تتابعها دور الصحة بالمدن الجزائرية الكبرى، مفسحة لهم من طيرانها العسكري مقاعد أسبوعية جزلة .
وتبقى الهبة من الوثائق الرسمية أهم الهبات و أبلغها عطاء، فالصحراوي اللاجئ لا يعاني وصمة اللجوء حين يهم بجولة في العالم، فجواز السفر الجزائري الذي حافظ على كرامة الإنسان الصحراوي دون إهدار هويته و تميزه يعتبر أعظم عطايا العناية والرعاية الجزائرية.
يعرف الفلسطينيون حقيقة أننا كصحراويين نعاني ما يعانونه من لجوء و شتات لكن حظنا كان أوفر منهم لضيافة الجزائر لنا، هذا فضلا على أن الجزائر التي تدعم القضية الفلسطينية بما أوتيت من قوة، دون تذبذب في المواقف كانت ستكون لهم حضنا آمنا لشتاتهم لو أنهم لجئوا إليها، لكن حكم الجغرافيا له قبضته.
ودعت هديل و أبو طارق عند أعتاب مكتبة بيسان بشارع الحمراء، وحديث المخيمات واللجوء والوطن والثورة لا ينقطع، ونحن وهم وهم ونحن حتما عائدون للوطن يوما لا محالة.