ترشيد السياسة العقابية وتضييق نطاق العقوبات السالبة للحرية قصيرة الأمد
أمام الانتقادات الكبيرة التي مازالت تقدم إلى العقوبات السالبة للحرية من منطلق أنها لا تفي بالغرض المرجو منها وهو إصلاح المحكوم عليهم، زيادة على النفقات الباهظة التي تكلفها للدول، فقد بات لزاما على فقهاء السياسة العقابية الحديثة إيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية تتلاءم مع طبيعة المجرم وتحد من ازدياد معدلات الجريمة، كما تساعد المجرمين على إعادة الاندماج في المجتمع.
أمام الانتقادات الكبيرة التي مازالت تقدم إلى العقوبات السالبة للحرية من منطلق أنها لا تفي بالغرض المرجو منها وهو إصلاح المحكوم عليهم، زيادة على النفقات الباهظة التي تكلفها للدول، فقد بات لزاما على فقهاء السياسة العقابية الحديثة إيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية تتلاءم مع طبيعة المجرم وتحد من ازدياد معدلات الجريمة، كما تساعد المجرمين على إعادة الاندماج في المجتمع.
من هنا عملت الدول على تطوير أنظمتها العقابية بترشيد سياستها في العقاب، وتضييق نطاق العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، وعكفت على البحث عن بدائل لها، تكفل تحقيق عدالة متوازنة، وتقع بين السجن (تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في وسط مغلق)، والاختبار ووقف تنفيذ العقوبة (تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في وسط حر)، حيث يطلق على هذه البدائل “بالعقوبات البديلة” Les Sanctions Alternatives، ومنها الوضع تحت المراقبة الالكترونية الذي اعتبره بعض الفقهاء نهاية للعقوبة السالبة للحرية.
ومن ثم فان هذه الدراسة تعالج موضوع الوضع تحت المراقبة الالكترونية في النظم العقابية الحديثة، بداية من إبراز مفهومه وتطوره، وصولا إلى تحديد النظام القانوني له بتحليل شروطه وأساليب وضعه موضع التنفيذ.
أولا: مفهوم نظام المراقبة الالكترونية
ضمن هذا الموضوع نتناول تعريف نظام المراقبة الالكترونية في نقطة أولى، كما نعمل على إبراز مراحل تطور هذا النظام في نقطة ثانية، ثم نتطرق إلى مبررات وضعه في نقطة ثالثة.
1- تعريف نظام المراقبة الالكترونية
يعتبر نظام المراقبة الالكترونية أحد الأساليب الحديثة لتنفيذ العقوبة السالبة الحرية قصيرة المدة خارج السجن –أي في الوسط الحر- بصورة ما يعبر عنه بـ “السجن في البيت”، ويقوم هذا النظام على السماح للمحكوم عليه بالبقاء في منزله، غير أن تحركاته محدودة ومراقبة بواسطة جهاز يشبه الساعة أو السوار مثبت في معصمه أو في أسفل قدمه، ومن هنا جاءت تسمية هذا الأسلوب (السوار الالكتروني)، وهو الوصف الذي يعتمده البعض القليل من فقهاء علم العقاب.
لقد تعددت المفاهيم والمصطلحات التي أطلقت على نظام المراقبة الالكترونية، وإن كانت في مجملها تصب في هدف واحد، حيث عبَّـر عنه الفقه الانجليزي بعبارة الإسورة الالكترونية، بينما استعمل البعض الأخر مصطلح الرقابة الالكترونية، في حين فضل البعض الأخر استعمال مصطلح الرقابة الالكترونية لتنفيذ التدابير الجنائية.
وعلى أية حال تعرف المراقبة الالكترونية على أنها استخدام وسائط الكترونية للتأكد من وجود الخاضع لها خلال فترة محددة في المكان والزمان السابق الاتفاق عليهما بين هذا الأخير والسلطة القضائية الآمرة بها.
يتضح إذن أن الوضع تحت المراقبة الالكترونية يعتبر طريقة لتنفيذ العقوبة السالبة للحرية خارج أسوار السجن، يقرر إما في إطار تدابير تحديد الإقامة أو في انتظار المحاكمة أو كبديل عن العقوبة، يعتمد على التزام الشخص بالبقاء في منزله خلال ساعات محددة من طرف القضاء، على أن يحمل الشخص المعني سوارا الكترونيا في قدمه، وإذا ابتعدت عن قدمه يتم إنذار المراقب مباشرة بطريقة الكترونية، ويسمى باللغة الفرنسية بـ ‘’ placement sous surveillance électronique “ أو اختصارا “ PSE “.
تعتبر المراقبة الالكترونية ترجمة للاصطلاح الفرنسي La surveillance électronique أو الاصطلاح الانجليزي Electronic monitoring وهو ما يعبر عنه أيضا بالإسورة الالكترونية Bracelet électronique. ويقصد بذلك إلزام المحكوم عليه بالإقامة في منزله أو محل إقامته خلال ساعات محددة، بحيث يتم متابعة ذلك عن طريق المراقبة الالكترونية. ويتحقق ذلك من الناحية الفنية بوضع أداة إرسال على يد المحكوم عليه تشبه الساعة، وتسمح لمركز المراقبة من كمبيوتر مركزي بمعرفة إذا كان المحكوم عليه موجودا في المكان والزمان المحددين بواسطة الجهة القائمة على التنفيذ أم لا.
وعليه فانه من الناحية الفنية يتم تنفيذ نظام المراقبة الالكترونية من خلال ثلاثة عناصر:
جهاز إرسال يتم وضعه في يد الخاضع للرقابة.
جهاز استقبال موضوع في مكان الإقامة ويرتبط بخط تليفوني.
جهاز كمبيوتر مركزي يسمح بتعقب المحكوم عليه عن بعد.
إن تطبيق هذه الوسيلة يفترض صدور حكم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة –كقاعدة عامة- مدة عام، وبعد صدور هذا الحكم تقوم الجهة القائمة على التنفيذ، أو قاضي تطبيق العقوبات (كما هو الحال في فرنسا) بإخضاع المحكوم عليه لهذه الوسيلة إن توافرت الشروط المنصوص عليها في القانون. فهذه الوسيلة لا تسري على كل المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية ذات مدة قصيرة، وإنما فقط على المحكوم عليهم الذين تتوافر لديهم القابلية على الاندماج في المجتمع، وذلك بمواصلة دراستهم، أو أعمالهم، أو علاجهم الذي يتفق مع حالتهم كما هو الحال بالنسبة لمتعاطي المواد الكحولية ومدمني المواد المخدرة.
هذا ونشير إلى أنه توجد صورتان للحبس المنزلي أو المراقبة الالكترونية:
الأولى: الحبس المنزلي كعقوبة: ويصدر به أمرا قضائيا، ويهدف لمساعدة المحكوم عليه به على تغيير كل فاسد أو منحرف بداخله من قيم وسلوكيات، وإحلال دعائم ضبط النفس والسلوك القويم وتنمية الوازع الأخلاقي في نفسه محلها. إضافة إلى تجنيبه وأفراد أسرته وعائلته الآثار السلبية المتعددة للعقوبات السالبة للحرية، كما تجنب المجتمع واقتصاده القومي الآثار السلبية التي تصيب دعائمه نتيجة تطبيقه أيضا.
أما الصورة الثانية: فهي الحبس المنزلي كأسلوب للمعاملة العقابية: ويصدر به قرارا إداريا من السلطة المختصة بالإشراف على السجون، يهدف إلى تجنيب السجين الآثار السلبية الناجمة عما يطلق عليه اصطلاحا –بصدمة الحرية-، نتيجة انتقاله المفاجئ من مجتمع السجن المغلق إلى مجتمعه الأصلي، كما يعد أحد الوسائل الفعالة في الحد من اكتظاظ السجون، وتتباين القواعد والشروط التي يجب توافرها في السجناء الذين يتم اختيارهم للخضوع للحبس المنزلي من تشريع إلى آخر.
2- تطور نظام المراقبة الإلكترونية
يعتبر التشريع العقابي الأمريكي أول تشريع قام بتكريس الوضع تحت المراقبة الالكترونية في نظامه العقابي عام 1980، غير أن التطبيق الأول لهذا النظام كان في عام 1987 في ولاية فلوريدا، ويستخدم أسلوب المراقبة الالكترونية في التشريع الأمريكي كبديل عن الحرية المراقبة، وكأحد الالتزامات المفروضة ضمن إطار الإفراج المشروط، وكبديل عن الحبس المؤقت، وقد تطور هذا المشروع في السنوات الأخيرة حيث بلغ عدد المستفيدين منه الآن في أمريكا وحدها نحو 100 ألف سجين.
بينما تم تطبيقه في أوروبا لأول مرة في بريطانيا عام 1989، إذ بلغ عدد المستفيدين منه الآن نحو 60 ألف سجين، كما انتقل بعدها إلى أغلب التشريعات العقابية الأوروبية من بينها السويد في عام 1994، هولندا عام 1995، بلجيكا وفرنسا سنة 1997.
وفي هذا الإطار فقد شكلت لجنة لدراسة كيفية تطوير الخدمات العقابية في فرنسا في عام 1990 خاصة فيما يتعلق بمكافحة زيادة نسبة السجناء، وتم تقديمها إلى وزير العدل من أجل محاولة تطبيق نظام جديد ألا وهو الوضع تحت المراقبة الالكترونية، وقد رفض هذا الاقتراح، إلى غاية صدور القانون المتعلق بقطاع العدالة في 06 جانفي 1995 الذي جاء في مضمونه التأكيد على عدم قيام السياسة الجنائية على تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في المؤسسات العقابية فقط، وقد توالت المحاولات فيما يخص تطبيق نظام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية وكان ذلك من طرف Guy Cabanel الذي تطرق إلى هذا النظام كوسيلة للوقاية من ظاهرة العود، وأن يكون هذا النظام بديلا عن التوقيف الاحتياطي ولكنه رفض من طرف الجمعية العمومية.
كما أعاد Guy Cabanel المحاولة وتم تقديمه في الدورة العادية للبرلمان 1995-1996 إلى أن تم قبوله من طرف البرلمان الفرنسي في 19 ديسمبر 1997 وتم العمل به في أكتوبر 2000، وبذلك أصبح هذا النظام
Le placement sous surveillance électronique، جزء من التشريع الفرنسي يطبق كبديل عن العقوبات السالبة للحرية يتم من خلاله وضع المحكوم عليه تحت الرقابة الإلكترونية بحكم صادر من طرف قاضي تطبيق العقوبات، بالإضافة إلى الكثير من المقالات التي تطرقت إلى شرح مفصل لهذا النظام، وقد عمل المشرع الفرنسي على تكريس نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية كنموذج عقابي مبتكر ذي خصوصية واضحة، حيث يهدف إلى تقييد الحرية لا إلى سلبها.
وقد أدخل المشرع الفرنسي نظام المراقبة الالكترونية إلى النظام العقابي من خلال القانون رقم 97-1159 الصادر بتاريخ 19 ديسمبر 1997، المتمم بالقانون رقم 2000-516 المؤرخ في 15 جوان 2000 المعدل بالقانون رقم 2002-1138 والقانون رقم 2004-204 الصادر بتاريخ 17 آذار/ مارس 2004، حيث خصص له المشرع الفرنسي المواد (من 723-7 إلى 723-14) من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي، ومن ثم أصبح نظام المراقبة الالكترونية أسلوبا جديدا لتنفيذ العقوبة السالبة للحرية بطريقة مستحدثة خارج أسوار السجن.
3- مبررات الوضع تحت المراقبة الإلكترونية
طبقا للمادة 132-26-1 من قانون العقوبات الفرنسي فان مبررات إخضاع المحكوم عليه للمراقبة الالكترونية تتمثل في أربع حالات:
ممارسة المحكوم عليه لعمل حتى وإن كان مؤقتا، أو لمتابعته للدراسة،
أو لتكوين أو لتأهيل مهني، أو للبحث عن عمل أو؛
- مشاركته الفعالة في واجبات الحياة العائلية أو؛
- لضرورة خضوعه لعلاج طبي أو؛
- في حالة ممارسته لأي نشاط جاد وفعال تقتضيه مستلزمات إعادة الاندماج الاجتماعي.
أما بالنسبة لطريقة تنفيذ عقوبة الوضع تحت المراقبة الالكترونية فإنها متروكة للسلطة التقديرية لقاضي تنفيذ العقوبة، الذي يحددها بموجب قرار غير قابل للطعن، يتخذه خلال مهلة أقصاها أربعة أشهر من التاريخ المحدد لتنفيذ الحكم.
لكن رغم المزايا العديدة لنظام المراقبة الالكترونية إلا أنه لم يسلم من الانتقاد، حيث ذهب البعض إلى أن هذا النظام لا يجسد صورة العقوبة ذات الأثر المادي الزاجر الذي توقعه سلطات الدولة على الفرد نتيجة مخالفته لقاعدة قانونية ملزمة، كما أن هذا النظام لا يحقق دوره الفعال في إصلاح المجرم، وتجنيب المجتمع من جرائم أخرى في المستقبل، بينما يعتقد بعض الفقهاء أن نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية عقوبة أساسها الحد من الظاهرة الإجرامية، سواء عن طريق إصلاح المتهم وإعادة تأهيله، وبالمقابل فان هذا النظام حسب البعض يفقد العقوبة قيمتها الردعية.
ثانيا: النظام القانوني للمراقبة الالكترونية
تقتضي دراسة النظام القانوني للمراقبة الالكترونية تحديد الشروط القانونية المختلفة لتطبيق هذه العقوبة البديلة في نقطة أولى، ثم تحديد كيفية تنفيذ الوضع تحت المراقبة الالكترونية في نقطة ثانية.