سنوات إلى الوراء طلع علينا الشّيخ عبد المجيد الزنداني من اليمن ليقول بأنّه اكتشف دواء لعلاج مرض العصر (السيدا) وبعد إجراء عدة لقاءات معه وتحقيقات ميدانية تبيّن بأنها مجرد عشبة اكتشفها بإحدى الصحاري، عملها هو تثبيط نشاط الفيروس الخطير وليس القضاء عليه نهائيا، وقد أدرج صاحبنا ذلك بأنّه يدخل ضمن الإعجاز العلمي في الطب النبوي. بعدها وُضع الزنداني في قائمة الكهنة والعشّابين الذين يقدمون لأي مريض خُلطة من الأعشاب والتوابل...قد تصلح لشخص وتناسبه لكنها تخفق أمام المئات والملايين؟ا
تأتينا بعدها في الجزائر ظاهرة بلحمر...والهالة التي صُنعت من حوله في أحقية إشفاء المرضى من السحر والمصابين به، ومواجهته الشخصية للجن وإرغامه بعد طقوس كهنوتية على المغادرة..حتى أنّ كثير من الجزائريين ممّن هم مصابون بأمراض أخرى تتعلق بالوسواس القهري والذهان والصدمات النفسية وحتى «الشقيقة» زاروا هذا الطبيب الشعبي وحجّوا نحوه سعيا منهم إلى ربح علاج شافٍ أو الفوز بوصفة مطمّئِنة؟ا بعدها يواجه الجزائريون الآن قبل نهاية السنة دواء «رحمة ربّي»، الذي كثر اللغط من حوله لمكتشفه توفيق زعيبط الطبيب القسنطيني المتخرّج من جامعة سويسرية بجينيف. هذا الأخير يصرّح بأنه مجرد مكمّل غذائي وليس بدواء بالمعني الطبي الصيدلاني؟ لكن عبر عدة لقاءات لم يفسر للمشاهدين ما معنى مكمّلا غذائيا ولأيّة نقص سيكمله يا ترى؟ا
وبتفسير بسيط مرض السكري بالجزائر أو غيرها من سكان العالم يعانون من نقص في مادة الأنسولين التي يفرزها البنكرياس في المعدة لضبط توازن نسبة السكر التي يحتاجها جسم الإنسان. ويعود الفضل في ذلك كما هو معروف للطبيب الكندي فريديريك بانتينغ، حيث منذ عشرينيات القرن الماضي وهو معمول به، وأي دواء آخر دخيل عليه لابد أن يحل محل فاعليته ويؤدي معه نفس الدور في الجسم أو أكثر. لذلك فإن القول بمكمل غذائي يعني أنه يعوّض نفس النِسب والمفعول الذي يقوم به الأنسولين، وهذا أول خطأ يقوم به الطبيب زعيبط...لأنّه كان رجلا جد ذكي في طرحه على ردود الفعل فقد تلاعب بلفظ مكمل متهرّبا من قول أنه دواء (وهو يقول دوما حاشا ليس بدواء) ثم الشيء الآخر الذي طرحه المختصون طريقة التعليب التي جاء بها دواءه المزعوم، إنّه في هيئة علبة مضبوطة قياسا وتحوي أقراصا عادية كباقي الأقراص..ولو كانت مجرّد مكمّل أو خلطة فقط لكانت داخل كيس بلاستيكي به بودرة أو مستخلصات الأعشاب نفسها. لماذا وضعت وصُنعت على طريقة الدواء؟ زيادة عن هذا وكما يقول الأستاذ عميد الأطباء محمد بقاط بركاني مرض السكري لا يحتاج نهائيا لمكمّل غذائي..فهو مرض استثنائي يختلف عن باقي الأمراض...لأن المكمّل الغذائي يعني أنه يحتوي على مواد غذائية وبروتينات لا يتناولها المريض بطريقة مباشرة، فمثلا عندما ينصح الطبيب مريضه المصاب بنقص في الكالسيوم بعدم أكل البيض والبطاطس والحليب يعطيه مكمل غذائي على شكل أقراص أو سوائل بها مادة الكالسيوم وهذا هو المكمل؟ا
وجد الطبيب زعيبط نفسه في مأزق، لذلك حاول أن يخلق آليات دفاع تنجيه من ورطته التي أحاطت به، منها السعر المبالغ فيه 1700 دج، ويبرر ذلك بأن ذلك معقولا بحجة أنه يشغل 600 عامل بمصنعه ومخابره وأنه يستشرف جائزة نوبل للاكتشافات الطبية (لكنه يصف انجازه بالاختراع)، وهذا كذلك تعدِ وتجنِ على اختيار التسميات المناسبة لأنه هناك فرق بين الاختراع والاكتشاف. لا تهمّنا أكيدا التفاصيل التي جاء بها هذا الدواء وكيف خرج للوجود، وكيف خضع للإجراءات القانونية بين وزارتي الصحة والتجارة، هذه الأخيرة التي سارعت إلى سحب الدواء من الصيدليات وحذّرت الأطباء من تسجيله بالوصفات.
لكن يهمنا حجم التأثر والتأثير الذين لازالا يفعلان فعلتهما لدى الذهنية الجزائرية، وهي الانغماس الكلي وراء كل الشائعات والتهاليل دون اللجوء والإبقاء على قناعاته العلمية (إن وجدت)، فهو مواطن مغلوب على أمره يصدق كل شيء. وهنا نحن لا ننقص من سمعة الدكاترة والباحثين الجزائريين، ولكن أن تتم الأمور بهذا الشكل أي لأن تصل إلى عملية التسويق، فهنا يحدث التصديق. والأكيد كذلك أنّ وزارتي الصحة والتجارة تتحمّلان جزءا كبيرا من المسؤولية، وهما الهيئتان اللتان أعطيتا الضوء الأخضر لصاحب الاكتشاف. وعندما حدثت المهزلة...واحدا سارع للتبرؤ وآخر برّر ذلك إلى إعادة الدواء للمخابر لعل وعسى به مواد كيمياوية سامة وغير لائقة تشكل خطرا على صحة المريض على المدى البعيد؟ا حدث هذا قبل قرار سحب الدواء نهائيا من الصيدليات وحظر تسويقها كلية. والسؤال الجوهري لماذا لم يتم ذلك مسبقا أي قبل العقد لأنّ الموضوع جد حسّاس ويتعلق بصحة الإنسان وخاصة مرضا فتك بالملايين وأعجزهم عن الحياة العادية. نقول المجتمع ليس بمغلوب على أمره، وفي نفس السياق هو كذلك، لأن الدواء قبل قرار سحبه كان مقنّنا ويباع في المتاجر المعتمدة بسجلات تجارية مصادق عليها بأختام الدولة، وليس في دكاكين العشّابين أو الأسواق الشعبية.
الطّبيب برّر نجاح دواءه بشهادات حية، وهذا ممّا زاد الطين بلة ويناقض قناعات الطبيب نفسه، الذي نفى على أن يكون مكمّله دواءا بديلا عن الأنسولين وملحاقته، فقد كان عليه أن يصرّح بأن المرضى فقط هم من يتخيّلون أنه شفيوا تسليما بحكمة أن المريض يتشبّث بأيّة قشّة تقنعه عن أنه في طريق السّلامة.
الخلاصة في مقالنا إذا هي أنّ زعيبط بريء لأنّه دخل هذه اللعبة مدجّجا بالقوانين فقط الذي تقع على عاتقه قرائن التهمة، هو المواطن نفسه الذي مازال خفيف الظل تهزّه ريحا بمكان وتضعه ريحا أخرى بأي مكان، مفتقدا لثقافة التواصل والبحث والابتعاد، مفضلا وبسرعة البرق ثقافة التقاليد البالية والشّعوذة والدروشة...حتى ولو كان من سكان السواحل والمدن الكبرى، ثم لا ندري ما الذي سوف يحدث غدا؟!