طباعة هذه الصفحة

اللّغـــــــة العربيـــــــة ضحيـــــــة محيطهـــــــا

سعيد بن عياد

لعلّ من أبرز قيم الوفاء للّغة العربية في يومها العالمي المصادف لـ18 ديسمبر، أن يلتزم عشاقها ومستعملوها بالحديث بها في المنزل والشارع والسوق (على الأقل في هذا اليوم)، تعبيرا عن احترامهم لغة الضاد التي صمدت في وجه عوادي الزمن وعانت الاحتقار والتهميش خلال حقبة الاستدمار وتميزت في الإبداع والتبليغ وجمعت الشعوب والأمم.

لم تكن أبدا اللغة العربية بديلا لأيّ لغة في وطنها الأم منذ أن تقبلها الشعب الجزائري مع مجيء الإسلام ناشرا العلم والمعرفة ومحررا الإنسان ومحصنا الأوطان في وجه الغزاة والمحتلين، بل حافظت على طابعها الجامع، محتضنة كل ما يتميز به المجتمع من خصوصيات وتنوع. لكنها في مراحل مختلفة، كما هو الحال اليوم، تعاني من ردّة بعض المنتسبين إليها ممّن حولوها إلى سجل تجاري، سرعان ما يتخلون عنها بمجرد بلوغ مآرب ضيقة، وبالتالي فإن أكبر من ظلمها، أكثر من غيرهم، هم بعض من حمل لواء الدفاع عنها على كافة المستويات.
إن هذه اللغة التي كانت من بين أول الأهداف التي سعى الاحتلال الفرنسي لتحقيقها ضمن مشروعه الاستيطاني وضرب الهوية الجزائرية، ارتبطت بالمقاومة الشعبية جيلا بعد جيل وكانت عاملا حيويا في تأمين التواصل بين الشعب الجزائري وصون هويته وتحصينها، وربط امتداده الحضاري بمحيطه الإقليمي الطبيعي والعقائدي. وتواصل دورها في الحركة الوطنية متجاوزة نقص الوسائل وبرامج التدجين لتكون وسيلة اتصال خلال الثورة التحريرية، بحيث استعملها قادة الثورة، خاصة على مستوى هياكل جيش التحرير الوطني، من خلال تحرير التقارير وكاتبة التعليمات وضبط السجلات، فساهمت بشكل فعال في تبليغ رسالة الثورة التحريرية وشرح أهداف بيان أول نوفمبر، إلى درجة أن أبسط مناضل، مهما كان مستواه التعليمي، أصبح، بفضل اللغة العربية ومعها اللغة الأمازيغية ومختلف اللهجات المحلية ذات القيمة الوطنية البارزة، على درجة من الإدراك والوعي والفهم لمسار النضال والكفاح ضد المحتل.
واستمر دورها بعد استرجاع السيادة الوطنية لتصطدم بمقاومة من اللغة الفرنسية حتى قررت الدولة بشكل حاسم وفعال اعتماد التعريب كحلقة أخرى في مسار بناء وترميم الهوية الوطنية وتحققت نتائج معتبرة وذات دلالات، بما في ذلك ضمن الحقل الاقتصادي والجامعي والإداري والإعلامي. غير أن تعرض البلاد لهزات خلال أواخر الثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، انعكس سلبا على هذه اللغة التي كانت أحيانا ضحية المحسوبين عليها، لتقاعس أو إهمال أو تهاون منهم، حيث تراجع مداها في الحياة العامة وانكمش مجالها، بفعل هجمة العولمة وموجة التكنولوجيات الجديدة للاتصال، خاصة بسبب ضعف الدور الإنساني الذي سقط في ما هو سهل واستهلاك الجاهز وتجاوز مسألة هامة مثل اللغة العربية التي تحتفظ بتاريخ حافل في تنمية باقي اللغات وإثرائها عبر التاريخ.
إن حياة أو موت لغة مسألة ترتبط بمدى حيوية وصدق والتزام مستعمليها، أي أن الإنسان في النهاية هو المسؤول عن مصير اللغة من حيث مدى قدرته على تطويرها وتحسينها واستعمالها في حياته اليومية. لذلك، بقدر ما يكون العقل قادرا على الابتكار بالعربية، بقدر ما تحقق هذه اللغة نموا وازدهارا وتفرض نفسها في الساحة، خاصة في المجالات الاقتصادية والعلمية والمعرفية، حتى يتم تغيير تلك الصورة النمطية بأن العربية لغة الشعر والقصة فقط... أو لغة المتقاعسين وغير الجديين، بينما هي لغة الفن والإبداع والكرامة الإنسانية، وبالتالي أي ضعف أو تقصير سببه الإنسان والمجتمع ورموزه. ولا يمكن اليوم تفسير ذلك التراجع في الساحة العامة إلى درجة أن بعض المرافق والمؤسسات تخلت عن مصطلحات اللغة العربية أمام العودة غير الطبيعية للفرنسية، مثل بعض مصالح البلديات والهيئات، بل حتى تاجر الدجاج وبائع الحلويات سقط منهزما بفعل عقدة اللغة الأجنبية التي تعتبر المستفيد الأول من الوضعية الراهنة، خاصة في ظل ارتفاع أصوات الداعين لاستعمال الدارجة أو العامية أو أي لغة غير العربية الفصحى.
لاتزال هناك الكثير من الجهود للرفع من مستوى ومكانة اللغة العربية في المجتمع، وهي مسؤولية الكفاءات المبدعة والطاقات الخلاقة بإدراج اللغة العربية في مشاريعهم وأبحاثهم ورسائلهم وفي مفاوضاتهم للأجانب. وليس أمرا سويا أن يستعمل أجنبي يزور الجزائر اللغة العربية، بينما يستعمل الجزائري اللغة الفرنسية، خاصة في الحقل العام والرسمي.