«..لا يمكن إلا الاعتراف بأن السلم واحد مهما اختلفت الديانات، والتعايش بين الشعوب حتمية الإنسان، الذي لا يمكنه أن يتخلى عن خيار الحوار، مهما اختلفت الثقافات وتعددت الحضارات في كل زمن من هذه الحياة، بالأمس واليوم وغدا، ما أحوج الشعوب على اختلاف دياناتها وتعدد لغاتها وتنوع معتقداتها، أن تنصهر حول قناعة أن الإنسان واحد..» بمضمون هذه العبارات الحية والمتفاعلة مع الكرامة الإنسانية، و التي تنبض بنبذ العنف وترفض هيمنة قوى معينة على الشعوب والزحف نحو اختراق خصوصياتها والعبث بإرثها واقتلاع ماضيها دون وجه حق.. يتحدث بول ديفارج رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر بالنيابة، وأسقف منطقة الشرق الجزائري«قسنطينة وعنابة» في الحوار الحصري لجريدة «الشعب»، مؤكدا أن سبيل السلم والتعايش يعد المخرج الآمن للشعوب، التي يفترض أن تنفتح على بعضها وتتقاطع في إرساء أبرز القيم الإنسانية..حتى يكون العالم بغنيه وفقيره وبمختلف ألوانه أكثر إنسانية..
الشعب: كيف يمكن أن يتحقق التعايش الفعلي بين الأديان خاصة في ظل ما يقترفه الإرهاب في حق الإنسانية من جرائم وحشية، ولا يتردد في الادعاء أنه يستمد مبادئه العرجاء والشاذة من الدين، حيث شوّه الإسلام بطرق دموية ولأغراض دنيئة؟
بول ديفارج رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية بالجزائر: خلال العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر، بقيت الكنسية محافظة على تواجدها رغم صعوبة الوضع الأمني آنذاك، لأن من مهامها التي تسهر على تأديتها تفعيل التعايش و إحلال السلام وتكريس الموّدة، لذا لم نغادر الجزائر، فلا يمكن أن تترك المحيطين بك في خطر، بل تشعر أنه من مهمتك الصمود والمقاومة معهم، فلا يعقل أن يترك المريض وحيدا في مواجهة الداء الذي ألّم به، بل بحكم روابط الصداقة التي تجمعنا بالجزائريين، بقينا بقلوبنا وخطابنا وقناعتنا ودعواتنا مع الشعب الجزائري، على اعتبار أن الكنيسة لا تقتصر مهمتها على التكفل بالمسيحيين، وإنما تربطها علاقة أخوة وصداقة مع جميع الناس داخل وخارج الجزائر، ويجب أن أشير إلى أن البابا فرنسوا في الفاتيكان يؤكد أن مهمة الأديان تتمثل في نشر السلام، وفي الإسلام نجد المسلمين يؤدون صلواتهم الخمسة ويدعون للخير، ونحن في المسيحية نحرص على المحبة، وجميعنا في مختلف الأديان يتفق على السلام والتعايش العميق بين البشر، ومن يجرأ على تلويث وتدنيس الدين ويبعده عن حقيقته ويعرّيه من هويته العميقة دون شك يفسد الدين، وفوق كل ذلك لا يمكن لأي إنسان أن يمارس العنف باسم الدين أو الربوبية، لأن ربنا مشيئته حريصة على أن يستتب السلام بين الجميع، وعندما نرى بعض الجماعات الإرهابية، تقدم على أفعال إجرامية وهمجية، نتأسف إلى جانب المسلمين، وكوننا نشعر أن المسلمين يعانون من هذه الأساليب غير الإنسانية ويطالهم بدورهم أذاها، فالحقيقة أن الدين لا يصدر منه العنف وأكيد يوجد خطأ، ولأن الدين يجعلنا أكثر إنسانية وأقرب وثاقا من حيث الأخوة.
ينبغي القضاء على الأحكام المسبقة على الغير
تنامت ظاهرة الإسلاموفوبيا والتطرّف خاصة مع موجة المهاجرين واللاجئين..كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة؟
لا يخفى أنه يوجد خوف حقيقي لدى الغرب، ولاحتواء ذلك وتبديد هذه المخاوف التي علقت بسبب الأفكار المسبقة والخاطئة، ينبغي أن تكون اللقاءات بين الأشخاص والجماعات ويتحدثوا إلى بعضهم، حتى يفند ما يروج من عبارات تحمل افتراءات ضد الإسلام وتصفه بالعنيف، كون الأصل في البشر أنهم يحملون قلوبا طيبة، ولا ننسى أنه تجمعنا في الإنسانية رابطة الأخوة، فكلنا بشر ونتقاسم القيم السمحة والنبيلة ونتطلع إليها، لذا يجب مكافحة الجهل، والاستفادة من تلك الحروب التي عصفت بالإنسانية عبر التاريخ، لكن يجب أن نقول أن هذه الحروب لا يوجد ما يبررها، وأرى في هذا المقام أن تكثيف اللقاءات الشخصية والاستماع إلى بعضنا البعض، سوف يقضي على الأحكام المسبقة تجاه الغير، وهنا ينبغي التعاون لإنجاز عملية تصحيح نظرة هذا الجانب للجانب الآخر.
ما هي مسؤولية البلدان الغربية التي تمثل الدول الأكثر ثراء وتقدما في العالم في الحد من ظاهرة التطرف، التي نجم عنها هجرة زاحفة في شكل «تسونامي» بشري؟
أعتقد أنها قضية سياسية، ولا يمكن أن نتجاهل أننا نعيش اليوم في عالم معقّد، تطبع ملامحه العولمة ولا يخلو من الضغط بين الشعوب، وغياب العدالة فيه، فنجد دول ثرية وأخرى فقيرة، وأرى أن اللاعدل وحده من يخلف في أعقابه العنف، بسبب عدم وجود سقف معقول من الإنصاف، أما المشكل الدولي الذي لم يحل مشكلة الشرق الأوسط والصراع بين فلسطين و»إسرائيل» وغياب السلم في المنطقة وعدم الرضا..فلماذا لم يتمكن من إرساء السلم والاستقرار؟..هناك فضاء أممي ويوجد ضغط، وفي غياب رجال السلام تستعمل الحروب، وحان الوقت للعمل بجد من أجل إرساء العدالة، ولكل دولة أن تحفظ مكانتها في العالم، هذا من جهة ومن جهة أخرى تواجه البشرية الخطر الإيكولوجي الذي يهدد كوكبنا الأرضي، والدول مدعوة للاتحاد، ومطالبة بمضاعفة الجهود ومن غير المجدي أن تنغمس في الحروب، ويجب الابتعاد عن السياسات بنظر قصير..لأن أطفالنا وأجيال الغد يحتاجون منا أن نحسم لهم في مسألة العدالة ونقضي على الأخطار، التي تتربص بالكرة الأرضية، حتى يعيشون في أمن وسلام واستقرار..
المتفق عليه أن البشرية تتقاسم مجموعة من القيم الإنسانية من حرية وعدالة ومساواة وسلم، وكذا ثقافة الاعتدال والتسامح ونبذ التطرف..كيف يمكن لحوار الحضارات أن يكرّس هذه القيم داخل المجتمعات، ويحدّ من العنف؟
قضيت سنوات طويلة بـ «قسنطينة» عاصمة الشرق الجزائري، وكوّنت صداقات وعلاقات حميمية، وتأثرت بتعاملات السكان، حيث درست على مدار عقود تخصص علم النفس بجامعتها، وتأثرت كثيرا، ومن المهم أن يعتني الشخص بالمحيطين به وتقديم يد العون للمريض والفقير، هذه هي طبيعة الإنسان الحقيقية، ومن الضروري الابتعاد عن الضغط والصراع والحسد الذي يولد العنف، وبالموازاة مع ذلك العمل على تفعيل قيم السلم بداية من القلوب حتى تنتشر على مستوى الدول، ويشكل التسامح قيمة ذات أهمية قصوى، وتبدأ من العلاقات بين الأشخاص وتعمم إلى الدول والتعايش ضروري للاستمرار، مثل تعايش الجزائر مع فرنسا، وتجاوز الأحقاد، بينما حوار الحضارات يكون بين الأديان أو الحضارات ويتمثل في حوار الحياة، أي التعايش في الحياة اليومية، وهذا ما يساعد على المعرفة الحقيقية للحضارات، ومن المهم معرفة الآخر والانفتاح عليه واحترامه وتقدير خصوصيته، والهجرة مرّدها الضغط الرهيب الذي يتعرض إليه البشر، ونحن ضد صدام الحضارات أو المواجهة بين الثقافات، لأن كل ثقافة ودولة لها قيم ولون وطريقة حياة، وكل طرف يمكنه أن يضيف للآخر العديد من الأمور.
رجال الدين مطالبون بالعمل لجعل الأديان والثقافات جسرا لتحقيق السلام
ما هي حصيلة مسار حوار الحضارات؟..وهل هو معطّل اليوم..ولماذا صوته لا يسمع؟
لا يخفى أن حوار الحضارات بات صعبا في الوقت الحاضر، لعدة عوامل من بينها العولمة السريعة والحروب وغياب العدالة، وفي ظل إيديولوجيات ترغب في أن يعم الصراع بين الديانات والحضارات، وهناك لوبيات من الأشخاص يميلون إلى الضغط ويحبذون خيار الحروب، وهنا رجال الدين مطالبون بالعمل حتى يجعلوا من الأديان والثقافات والحضارات جسرا وعاملا جوهريا لتحقيق السلام المنشود وكذا الأخوة مع الآخر، ولا يجب البقاء في الهامش، ومن الضروري أن تكون جهودا للعيش معا في احترام، والتعرف على عمق الأديان. والنقطة السوداء اليوم تكمن في الإرهاب، ومن يقول أن الإسلام بريء من الإرهاب محق في ذلك.
الحذر من الانغلاق والتعصّب وأي ثقافة منغلقة ليست جيدة
تعاني المجتمعات الغربية من ظواهر غير مقبولة، حتى لدى شريحة من أفرادها..ألا يشكل هذا خطرا على حوار الحضارات؟
نحذّر كثيرا من الانغلاق والتعصّب، ونقول نحن الأحسن والآخرين على خطأ من دون التعرف عليهم، والثقافة المنغلقة دون شك ليست جيدة، ولا تبني، ورغم وجود أساس ديني وأمم، لكن وراء كل ذلك يوجد خوف جلي لا يمكن تجاهله أو إخفاؤه.
تتميز الجزائر كما العديد من الدول العربية بالانفتاح على محيطها المتوسطي، لكنها حريصة على خصوصيتها، كيف ترون ذلك على صعيد تقبلها للحوار مع الآخر وعلى استعداد لتقاسم تجاربها الثرية؟
يمكن انطلاقا من تجربتي في الجزائر والتي قضيت فيها ما لا يقل عن 45 عاما، علما أنني من مواليد فرنسا، وقفت على كرم الجزائر وعلى احتضانها الدافئ للأجنبي، وليست لدي أي صعوبة في معرفة الجزائر، وتوجد جهود ملموسة، فوزير الشؤون الدينية الجزائري محمد عيسى، قال أن الإسلام يتعايش مع جميع الديانات الأخرى، وكنت بالفعل شاهدا على ذلك، وأي مغالاة وتطرف لا يمثل الجزائر، ونلمس حب الجزائريين للانفتاح بقلوبهم الكبيرة، ومن حق كل شعب أن يحافظ على خصوصيته، لأن البلد لن يتوقف عن التطور.
لا أشك في انفتاح المسلم ووقفت على حقيقة أن الإسلام يحتضن الآخر
كيف وجدت رؤية واحترام الإسلام لباقي الديانات؟
على ضوء كل ما عشته منذ أزيد من أربعة عقود كاملة، ومن خلال لقائي بالمسلمين خلال هذه الفترة، لا أشك لحظة في انفتاح المسلم ووقفت على حقيقة أن الإسلام يحتضن الآخر بكل حب وأمان، وتوجد حرية المعتقد كل واحد يمكنه أن يحافظ على دينه، رغم أنني تحصلت على الجنسية الجزائرية تضاف إلى جنسيتي الفرنسية.
صدرت بعض التقارير الغربية، التي قال عنها بعض الملاحظين أنها لا ترصد الواقع بشكل دقيق في الجزائر والوطن العربي..هل لديكم مساهمة في توضيح الوضعية؟
أعاني بدوري من النظرة الغربية المبالغ فيها وغير دقيقة، لكن على وجه الخصوص في الجزائر اليوم أعاني من بعض النظرات السلبية حول الأمن، وحسب خبرتي الجميع يعيش في أمن وسلام واستقرار وكمسيحي تنقلت كثيرا، فأعتبر نفسي شاهدا وأدعو في نفس المقام السياح والأصدقاء وأقصد جميع الأجانب للمجيء إلى الجزائر التي لن تتردد في استقبالهم، حيث يمكن الاستمتاع فيها عن طريق قضاء عدة أيام سوف تكون رائعة.
بعض الدول العربية تعاني من الهجمة الإرهابية التي تنفذ بشعارات مغرضة.. كيف تتعاملون مع استهداف الآثار التاريخية، وكذا ظاهرة التهجير بالانتقاء، حيث يدير كل طرف ظهره إلى الآخر؟
حتى في «الربيع العربي» سجلت إيجابيات، ونأخذ مثالا على ذلك التجربة التونسية، والتي عبّدت طريقا للديمقراطية، وابتكرت نموذجا ديمقراطيا يناسبها، ونتج عن ذلك تواصلا بين الحاكم والشعب، أما بقية الدول المتضررة من الربيع العربي، نذكر من بينها سوريا، يمكن وصفه بالتحدي، الذي تواجهه العديد من الدول العربية، لكن نحن مرغمين على العيش معا، وكل الضغط والحروب التي تحدث في باكستان وسوريا والعراق وما إلى غير ذلك، تعد كارثة إنسانية، والحرب لا تقتل الإنسان فقط بل الماضي وذاكرة هذا الإنسان، وكل ما لا يحترم الذاكرة الإنسانية من تراث يعتبر تجاهل مفتعل ضد الإنسانية. والجدير بالإشارة، فإنه من الضروري الحفاظ على الآثار، وكل شعب يجب أن يتحرك على المستوى العالمي، ونساند المساعي التي تحرص على حماية الآثار من التدمير، ونؤيد الحفاظ على التراث والآثار التاريخية، لأنه لا يمكننا العيش بدون آثار وماضٍ.
نلمس حاليا سيطرة قوى المال الذي لا يحترم التنوّع والثقافة والإنسانية
في ظل الحرب على الإرهاب..كيف يمكن للأديان أن تساهم في إنقاذ أرواح الأبرياء؟
بالفعل لا نبالغ إذا قلنا أن العولمة تثير التخوّف، حيث يمكنها أن تفقدنا هويتنا، هذا ما يدفعنا فعلا إلى التخوف وبالتالي ننغلق على أنفسنا، وينبغي أن نصل إلى كيفية العمل في ظل العولمة حيث يكون التساوي بين الجميع، وكل شعب يحافظ على مكانته ويعيش خصوصيته، وهذا ليس سهلا لأنه لا يمكن العيش بمفردنا، لأن العالم صار قرية كبيرة وكل شعب له لغته ويحاول المحافظة على مكانته، وكل قوى تحاول الهيمنة بطريقة غير صحيحة من شأنها أن تخلق العنف، لذا يجب أن يلعب الجميع دوره إقليميا وعالميا، فمثلا الحكومات والأمم المتحدة والمغرب العربي، وشرط أن يكون لكل شعب وتنظيم مكانته، وجعل الإنسان في المركز الأول وفي الجوهر وليس المال، وللأسف نلمس في الوقت الراهن سيطرة قوة المال الذي لا يحترم التنوع والثقافة والإنسانية في الكثير من الأحيان.
ما هي عراقيل الحوار الحضاري.. ؟.. وكيف نعمّق قيم التضامن البشري خاصة في ظل العولمة الاقتصادية والسياسية والإعلامية؟
كل عام تخصّص جائزة «نوبل» للسلام، وهذه المبادرة تساعد دون شك شخصية أو مجموعة سهرت من أجل ترسيخ وتعميق السلام، ونعتبر أن ذلك تشجيع لكل من ينشط من أجل السلام، ويمكن وصفها بالجائزة المهمة والمميزة، وهذا يعني أن الشخصيات والمؤسسات التي تعمل من أجل تعميق السلام تنال التقدير، ولذلك فإن مصدر السلام يكون دائما من الأشخاص والمؤسسات التي تؤمن بهذه القيم.
قبل ان نفترق نوّد معرفة تطلعاتك للسنة الجديدة وتداعيات السنة التي تطوي آخر أيامها؟
ونحن ننتقل إلى العام الجديد نتطلع دوما لأن يعم العالم سلاما أعمق وتعايشا أكبر وتحاورا أشمل ونموا ورخاء أوسع يمس أبعد نقطة من الكوكب الأرضي، تاركين المآسي والحروب والفقر والهيمنة في ذاكرة التاريخ بل ما أحوجنا لأن نستخلص منها العبر، خاصة وأن كوكبنا يواجه تحديات تعني الجميع ولا يمكن لأي بلد مهما كان قوي وشعب مهما كان آمنا أن لا يتحملها لوحده، وأكبر مثال على ذلك يهم البشرية جمعاء المسألة الايكولوجية.