طباعة هذه الصفحة

بعد أفول نجم الشيخ محمد الطاهر الفرڤاني

صوت «المنيــار» يتوقف عن الصداح والتغريد

قسنطينة: أحمد دبيلي

برحيل الشيخ «محمد الطاهر الفرڤاني»، نهاية هذا الأسبوع، يأفل نجم آخر من أعمدة فن المالوف في سماء مدينة الصخر العتيق، بعد تاريخ حافل من العطاء، أثرى فيه الشيخ قاموس أغنية «المالوف» وحافظ على هذا التراث الموسيقي كذاكرة حيّة للأمة.

فقد استطاع الشيخ «محمد الطاهر الفرڤاني»، خلال سبعة عقود من الزمن، أن يحمل مشعل أغنية المالوف عاليا، كان فيها مبدعا ومجددا وناقلا لهذا التراث الموسيقي إلى الأجيال، حيث أسر بفضل صوته العذب والفريد القلوب وشنّف آذان آلاف المعجبين داخل وخارج الوطن.
لقد كان الشيخ محمد الطاهر الفرڤاني أو «الحاج»، كما كان يدعوه معجبوه، صاحب موهبة مبكرة صقلتها تجارب أسرته، ابتداء من والده الشيخ «حمو» المغني والملحن المعروف في طابع الحوزي، وشقيقه «الزواوي» وانتهاء بشيخيه «علي خوجة» و»بابا عبيد» وكذا احتكاكه بأعمدة الموسيقى الأندلسية أمثال الشيوخ: «دحمان بن عاشور» و»عبد الكريم دالي» وهو ما ساعد «الحاج» على الابتكار وفرض طابعه الخاص والذي تميز به وبشكل ملفت للنظر عن باقي أقرانه، أمثال «حسن العنابي» و»عبد المومن بن طوبال».
وقد تولدت عن هذه التجربة الفريدة من نوعها والتي ميزها صوت الفرڤاني وأداءه الراقي المميز وقدرته البارعة في العزف على آلة الكمان، مئات الأغاني الجميلة التي رددتها وترددها حناجر المعجبين حتى اليوم منها: « ظالمة، البوغي، صالح باي، قالو العرب قالو، رحلو عني وسارو، ما اشكو شاكية، أنا راني حميم دايم، يا وعدي ماجاني، قم ياحبيبي، من فراق غزالي، لقيتو حبيبي، الصباح في الانشراح»... وغيرها من الأغاني الأخرى التي لاتزال تنبعث من محله الواقع وسط المدينة والذي يقصده المعجبون حتى اليوم.
هذا وإن كان الشيخ الفرڤاني قد أبدع في طابع المالوف وترك المئات من التسجيلات، فإنه أبدع أيضا في الطبوع الأخرى كـ «الحوزي والجزولي والمحجوز»، فحافظ بذلك على التراث الموسيقي التي تميزت به مدينة قسنطينة ونقله أيضا عشرات الشيوخ الذين سبقوا الشيخ وعايشوا والده «حمو الفرڤاني»، نذكر «بن كرطوسة» و»بوحوالة» وغيرهما كثير.
وإذا كان الشيخ الفرڤاني قد استطاع أن يستقطب آلاف المعجبين بفنه الذي حافظ عليه، فإن عشرات المطربين القسنطينيين قد تبنّوا موسيقى المالوف ورددوا القصائد حفاظا على هذا التراث العريق، من بين هؤلاء أيضا نجله «سليم» وحفيده «عدلان»، حيث تسعى كل هذه الأسماء جاهدة للحفاظ على هذا الموروث الثقافي من الاندثار والزوال.
قسنطينة، وهي تودع آخر شيوخها وعميد فن موسيقى المالوف الشيخ «محمد الطاهر الفرڤاني»، فإنها تودع صوت «المنيار» الذي غرّد في سمائها طيلة سبعة عقود، لكن يبقى صداه خالدا محلقا على ضفتي وادي الرمال وصخره العتيق إلى الأبد.