كثيرة هي الأصوات التي تجد في الكتابة الإبداعية معبرا لها لتفكيك أسرار الحياة، وتترجم همومها وأحزانها لأعمال جميلة ونصوص فارعة القامة، سامقة النقاء. فالمبدع الحقيقي هو من يتمكن من تلوين حروفه الغارقة في الشجن إلى خمائل وتأثيث حزنه بحروف تطير كما الفراش الجميل، وفي زمن صارت الكتابة في متناول الكل، على حساب الذوق والجودة، ولم يعد النشر ممرا آمنا للأصوات النقية، العذبة، بل صار التواجد وإثبات الذات المبدعة، الخالصة لهم الكتابة نوعا من الجلد الممنهج للنفس... لكن حين نعثر عرَضا على نص جميل وثري يكبر الأمل من جديد في غد مدهش، وعامر بالكتابة الراقية، الذاهبة عميقا بالإنسان.
حين قرأت عنوان المجموعة القصصية «فواجع الهزيع الأخير» للأديبة سعاد بوقوس، قادتني حواسي لتصفح لغة عامرة بالوجع، مسكونة بالفجيعة، غارقة في تهجي الألم... لغة بسيطة غير متكلفة، ونصوص موغلة بالإنسان، باحثة في شجنه، خيبته، عثراته وحتى أفراحه الصغيرة التي يستعصى علينا مشاركتها مع الآخر، وتصير همّا آخر يحمله القلب ويتعب، نصوص تراوحت في مجملها في تقفي أثر الوجع فينا، بكل أشكاله وصوره المتعددة، المخاتلة، المخادعة والهاربة عن التفسير.
لو انطلقنا من العنوان فإننا حتما سنجد أكثر من فاجعة وما للفاجعة من وقع على النفس، وتأثير على الإنسان، فالفواجع في تعددها إشارة صريحة لتكالب الأحداث، ودلالة واضحة على اشتداد المتاعب، وحين تكون في الهزيع الأخير حين يأوي الكل إلى الراحة، سواء كانت غفوة، أو الركون للحبيب، حينها تشتد المواجع عن المتعبين، وتزداد وطأة الوحدة والإحساس بالخواء، والحاجة لمن يسند الروح ويربت على الكتف... وهو ما يشير سلفا لطبيعة النصوص التي تضمنتها هذه المجموعة.
عناوين النصوص لم تختلف كثيرا على عنوان المجموعة والتي بينها قصة «فواجع الهزيع الأخير» التي أخذت المجموعة القصصية ملمحها، باستثناء قصة «تباشير الفجر» التي جاء عنوانها فيه إيحاء للانفراج والفرح، فمن «نقوش على الذاكرة» والتي كان بطلها يتبع خطى والده في الذود على الأرض ويسعى لاسترجاعها من غاصب مهما كان مصدره، ثم «الزمن الرديء» تغوص في تفاصيل الأسرة وتسلط الذكور ويشكل خاص الأب وتحكمه في مصير الإناث، وفي قصة « آخر قرار على عتبة الخطيئة» تتعرض للضغوط والمغريات التي تواجه الأنثى حين تخرج لسوق العمل، والبحث عن كرامتها المهدورة... من نص لآخر تتكشف لنا الكاتبة سعاد بوقوس عن مقدرة متميزة في حبك الأحداث، والإيغال في وصف الألم، والخيبات، ولو أنها تكسر من حين للثاني رتابة الأوجاع بأمل يطل من خلف غمام الخوف، التعب واليأس، للتوالى العناوين الثلاثية الكلمات «مشاهد من مدينة مجنونة» « حلم منتصف الليل» يوميات امرأة مجهولة» فاجعة الهزيع الأخير» ثم عناوين ثنائية الكلمات «نبوءة العراف» «وينقضي الموعد» و»أم السعد».
سعاد بوقوس في رحلة عامرة بالإيحاء، ولغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، والغموض تقود القارئ عبر دروب نصوصها لتحسس معاناة الإنسان، وفهم احباطاته وعثراته المتعددة... لكل من لا يعرف الكاتبة سعاد بوقوس هي دعوة للبحث عن حروفها التي تنتصر للإنسانية ولاشيء غيرها