يتحدث الأستاذ الدكتور صالح بلعيد في هذا الحوار، الذي خص به “الشعب”، عن المهام الجديدة للمجلس الأعلى للغة العربية، ويقدم أفكاره في مختلف القضايا التي تخص المدرسة الجزائرية والواقع اللغوي والخطط المستقبلية للنهوض بالعربية.
- ”الشعب”: تتولون رئاسة المجلس الأعلى للغة العربية منذ شهر سبتمبر، ما هي منهجية العمل التي ستعتمدونها بعد رفع منزلة الهيئة في الدستور الجديد؟
د. صالح بلعيد: المجلس الأعلى للغة العربية مؤسسة استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية منذ التأسيس عام 1998، ولكن دستور 2016 جعله مؤسسة دستورية وهذا جديد. والمهمة الأولى له هي أن يعمل على ازدهار اللغة العربية.
ويضاف لها، أن يعمل المجلس على تعميم اللغة العربية في العلوم والتكنولوجيا. التعميم كان موجودا في السابق، لكنه امتد الآن لقضية العلوم والتكنولوجيا، لأن العربية على مستوى التدريس أو التعامل مازلنا نعمل بها في العلوم الإنسانية والأدبية والتاريخ فقط.
النقطة الثالثة، هي أن يعمل المجلس على الترجمة من اللغات الأجنبية الأخرى إلى العربية، وهذه كلها إضافات ثلاث لم تكن موجودة في مهام المجلس منذ التأسيس.
في هذا المجال أسند إليّ رئيس الجمهورية مهمّة تسيير هذه المؤسسة وحظيت بأنني نصّبت في الفاتح من سبتمبر الماضي، فبدأت أعمل لتجسيد البنود التي نصّ عليها الدستور الجديد وهي واضحة ولا جدال فيها. قد نختلف في المنهجيات، لكن هدفنا واحد ولا فتوى مع الدستور.
بدأنا الآن نؤسس الخطوات الإجرائية والاستشارية لتجسيد هذه المعالم الكبرى. ولا يزال المجلس منذ أن تأسس هيئة استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية؛ بمعنى أنه يُعدّ دراسات وأبحاثا ويقترح أفكارا يقدمها، عن طريق خبرات أو ندوات، لصانع القرار.
ومنذ الأسبوع الثاني من سبتمبر، أصبح المجلس عبارة عن خلية نحل، حيث نصّبنا 08 لجان كلها بدأت تشتغل، على لغات السياحة، الفلاحة والزراعة، المعاجم، ازدهار اللغة العربية، الترجمة ووسائل الاتصال.
على سبيل المثال، في لغة السياحة، رأينا أن الجزائر بدأت تنحو منحى الاعتماد على جانب المعاملات في الخدمات، بدل الارتباط المطلق بالمحروقات. وهنا نسعى أن تكون العربية لغة معاملات وخصّصنا في ذلك بابا علميا ودقيقا موجها للسائح الأجنبي، حتى نقدم له تسهيلات نطقية للتعامل مع المحيط والحركة الاقتصادية، مع المطارات والمطاعم بلغة عربية بسيطة.
وشرعنا في إعداد أدلة مكتوبة (قواميس) تعتمد في تفكيرنا على رباعية لغوية وهي: العربية، المازيغية، الفرنسية والإنجليزية ويتعامل بها عن طريق مدونات ضيقة لا تزيد عن 50 كلمة أو أكثر عن طريق المكتوب أو جهاز إلكتروني ناطق، تتضمن المفردات الخاصة بكل منطقة يقصدها السائح.
والتعامل بلغة بسيطة لا يعني التسامح أو خدشا لغويا، بالعكس نريد الرفع من اللغة الوظيفية المستعملة لنرقى بها إلى لغة محافظة على أصول العربية.
الغرض من كل هذا، هو جعل اللغة العربية مزدهرة، لأن مسألة الازدهار واسعة جدا وتعتمد على الجانب التقني والأدبي واللغوي وإن كان تركيزنا أكثر على التقانات المعاصرة؛ بمعنى كيف نجعل اللغة العربية تتعامل مع التقنيات المعاصرة؟ هذا هو الأساس لنتمشى مع توجهات الحكومة الإلكترونية.
الترجمة عصب نشاطنا وعملنا
- في هذا السياق، ما هي علاقة المجلس بمؤسسات الدولة؟
لدينا علاقة مع كل مؤسسات الدولة الجزائرية التي تعمل على الشأن العام وخدمة قضايا اللغة. ونتعامل بشكل دائم مع وزارات التربية الوطنية، التعليم العالي والبحث العلمي، التكوين المهني، الاتصال، البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال وسلطة ضبط الاتصالات السلكية واللاسلكية. ولدينا اتفاقية مع المجلس الإسلامي الأعلى وعمل مشترك مع المحافظة السامية للغة الأمازيغية ونطلب ممثلين عن كل قطاع في اللجان التي وضعناها.
- من المهام الجديدة للمجلس الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ما هي الأولويات التي سيتم مراعاتها في هذا الجانب؟
بالنسبة لقضية الترجمة والاهتمام باللغات الأجنبية، نعطي الأولوية لربطها بالمهمة الثانية المتعلقة بـ “بتعميم اللغة العربية في العلوم والتكنولوجيا”. لكن هذا لا يعني ألا نعتمدها في الأدب والتاريخ، حيث نستهدف وضع خريطة عامة للكتب غير المترجمة والمطلوبة، ثم الكتب التي نحن بحاجة لها في ميدان التربية على وجه الخصوص. وهنا، نعمل بتكامل مع وزارة التربية دون التدخل في صلاحياتها، كما نعطي أيضا أولوية اللغة الأمازيغية التي أصبحت وطنية ورسمية.
- هل وضعتم استراتيجية معينة لتجسيد هذه الأهداف؟
نحن نخطط على المديات الثلاث: القريب، المتوسط والبعيد. بالنسبة للمدى الآني والقريب (خلال سنتين)، نعمل على إعادة الاعتبار للغة العربية وازدهارها، بحيث تكون لغة ثقافة واستعمال ومعاملات يومية.
على المدى المتوسط (10 سنوات)، سنشتغل على تعميم العربية في العلوم، بحيث يتعامل التلميذ مع مختلف اللغات في بعض المواد العلمية، لأنه لا يمكن أن تدرس جميع المواد بلغة عربية بحتة، ندرس بعض المواد بالعربية ولكن هناك مواد لابد أن تدرس بذات اللغة التي أبدعت فيها. فمثلا، من يريد التحكم في علم البحار عليه بالإسبانية ومن يريد التحكم في التقنيات الحديثة عليه بالإنجليزية.
وعلى المدى البعيد (25 سنة)، يسعى المجلس لأن يحقق للأجيال القادمة اكتساب ما يسمى بالذخيرة اللغوية للعربية بالنسبة للتلميذ الذي يصبح مسيّرا ومديرا وإطارا مستقبلا، لأن اللغة العربية ليست ملكا للجزائر وإنما هي ملك أولا للإسلام، للحضارة الإنسانية والدول العربية، نفكر كيف نبلغ العربية للدول غير الناطقة بها، وبالتالي نخطط لتجسيد أرضية تخرج الجيل القادم من التجاذبات اللغوية بحيث نستعمل اللغة المشتركة فيما بيننا وننفتح على باقي اللغات.
وفي عمل المجلس، سنعتمد على الانضباط، الكفاءة والسرعة، هذه الثلاثية التي أسير عليها بعد استشاراتي مع المختصين وبدأنا نضع الخطوات الأولى على الطريق في إطار الاستمرارية المتجددة.
العربية والفرنسية... تكامل لا تصادم
- رأينا في السنوات الأخيرة، محاولات للزج بالعربية في صراع لغوي يحمل صبغة إيديولوجية خاصة مع اللغة الفرنسية، كيف تنظرون لهذه المسألة؟
نحن نعمل على تجسيد مصطلح “اللغات الأجنبية” بصيغة الجمع. والحديث عن الفرنسية، لا يعني أننا نستغني عنها، أبدا. فقد فرضت نفسها في المجتمع الجزائري الحالي بحكم الماضي الاستعماري ونظرا لموقع ولا يمكن أن نتخلى عنها وهذا واقع. والحديث عن التعريب 100 من المائة خرافة، لا ننكر واقعا موجودا، لكن العبرة في كيفية التعامل معه بحيث يكون هناك تكامل ولا نعيش الصدامية.
وما أتينا للإلغاء، بالعكس نحن ننفتح ونجسّد ما في الدستور. مثلا، اللغة الإنجليزية ضعيفة في الجزائر، على الرغم من كونها لغة العلوم والعولمة وعلينا أن ننفتح عليها، وذلك مهم جدا بالنسبة للدول الأجنبية التي نتعامل معها، لأن استعمال الفرنسية ضيّق، ونحن نخطط لأن يكون للجيل الذي يأتي بعد 25 سنة أثر في اللغات كلها، على غرار التركية، الصينية، الإسبانية. والمجلس الأعلى للغة العربية، يعمل على ما يسمّى بالتسامح اللغوي أو المصالحة مع الذات.
- في أول تصريح لكم لوسائل الإعلام، قلتم إن معالجة التهجين اللغوي أولوية، كيف تقيّمون واقع العربية في الجزائر اليوم؟
آفتنا في الأداء اللساني في الجزائر، لا يكمن في استعمال الفرنسية في حد ذاتها ولا الأمازيغية في حد ذاتها ولا العربية، إنما في استخدام مصطلح من كل لغة لنشكل خليطا لغويا، هذا هو التهجين الذي يصبح لغة ضيّقة؛ لغة حي من الأحياء بحيث لا يعمل على الترقية اللغوية والتواصل مع الغير. لهذا رئيس الجمهورية يقول في كل مرة نحن شعب بدون لغة، لأننا لا نملك صفة مميزة للأداء، لدينا هذا الخليط الذي يكسّر القواعد. ونعتبر الأمر من الحالات المستعجلة التي نعالجها عن طريق تقديم أفكار وتكون المدرسة ووسائل الإعلام عضدنا.
واللغة وضع واستعمال وعلينا أن نذهب إلى استعمال رفيع وأرقى وليس السوقي. والمجلس يبحث عن حسن الأداء الذي يكون وسطيا بسيطا لا تقعّر فيه وهذا يدخل ضمن ثقافة اللغة. وعندما ننتقد ذاتنا، إنما نريد التطوّر والتحسين. ولما نقول إن أداءنا هجين، فهذا نقد ذاتي للاستعمال الحاصل ولا يجب أن نقف دون حراك أمام الأمر.
الآن، الواقع اللغوي الجزائري، لا نقول إنه جيد حتى لا نستبق الأحداث، لكن لا نقول إنه سيء، أبدا. لما نقارن بين عربية ستينيات القرن الماضي وعربية اليوم نجد رقيّا يتجلى على مستوى الجامعات والمعاهد والصحافة وحتى الأميّ عندنا بدأ يستعمل ما يسمّى عندنا بالرقي اللغوي. نحن لا نعيش العدم ولسنا في حالة رداءة، نحن نستعمل لغة وسطى جيدة وبخاصة لدى النخبة الوطنية ونحن أفضل لغويا من كثير من البلدان الشقيقة في مختلف المجالات.
وعندما ننتقد علينا أن نعطي البديل ونبدأ بأنفسنا. العربية في الجزائر بخير رغم القلاقل التي نسمعها ورغم بعض المضايقات.
إصلاحات الجيل الثاني... تفتّح في ظل الخوصصة
- وجدت اللغة العربية نفسها في قلب معركة ساحتها التربية الوطنية، بفعل مكانتها في إصلاحات الجيل الثاني. ما هو موقف المجلس من هذه القضية؟
نحن مع إصلاحات الجيل الثاني، لأننا نريد أن تكون لنا مدرسة معاصرة. لماذا نتمسك بكتبنا المدرسية القديمة التي ليس لنا فيها سوى 20 من المائة من النّتاج الأدبي الجزائري، لسنا ضد المشارقة أو العرب، لكن ألا نملك نحن مالك حداد، مفدي زكريا، عزالدين ميهوبي، عبد المالك مرتاض وكثيرا من المبدعين الجزائريين؟
الأمر من خصوصيات وزارة التربية الوطنية، لكن صحيح هناك صراع لغوي ولا يعني أنه معركة، هو اختلاف في الرأي. وهناك ما يسمى بحرب المجايلة ومعروف أن كل بدعة حسنة تُـحارب ويُسكت عنها بفعل الزمان.
لكن يفترض أنه لدينا الآن مؤسسات، نحن نعمل في إطارها. وعندنا مرجعيات ومقدسات بمثابة خطوط حمراء، كرسمية اللغتين العربية والأمازيغية في الدستور، يفترض عدم الاختلاف فيها. قد نختلف في المنهجيات، لكن نحن ملزمون بالحفاظ على الثوابت.
من الجيد أن تتناطح الأفكار ضمن الأطر المحددة، ونريد أن نحترم مؤسسات الدولة والمرجعيات التاريخية الحضارية واللغوية ونجتهد في ترقيتها، لا تجاوزها.
المجلس في هذا الاجتهاد يقدم الأفكار ولا يلغي أو يزاحم وزارة التربية الوطنية. وإذا استُشرنا في الكتاب المدرسي، سنقدم مقترحات بما هو في حسن الكتاب. ونرى أن يكون المحتوى من الواقع والمعاصرة وما يعمل على استشراف الغد ولا نلغي بعض الأمور ذات العلاقة بالتاريخ، لأنها من الثوابت.
علينا أن نعمل على تحديث الكتاب المدرسي من خلال نقل صدى الواقع الملموس، حتى من ناحية التعليم عندما نلقن التلميذ عن مبدع جزائري يكون له أثر أفضل من قضايا تاريخية قديمة جدا.
الجيل الجديد يريد الانفتاح على الثقافة وعالم الكومبيوتر، لماذا نتركه يعيش على واقع تاريخي أو افتراضي بالنسبة إليه.
عندما نستثمر في أولادنا في المدارس والحضانة وننمّي لهم أنماطا لغوية عالية يحفظونها ويتملكونها يصبح لهم مستويات يتعاملون بها في المدرسة وفي المحيط الضيق. بالنسبة لنا كل شيء يعتمد على المدرسة.
- دستور 2016 نصّ على ترقية الأمازيغية إلى لغة وطنية ورسمية، ونص على إنشاء أكاديمية لها، ما طبيعة العلاقة التي ستجمع المجلس بالأكاديمية التي ستنشأ خصيصا لها؟.
اللغة الأمازيغية منذ 1994 بدأت تخرج من التجاذب السياسي وأصبحت تدرس ثم لغة أصبحت وطنية ورسمية، وبدأ يكشف النقاب عن بعض التجاذبات السياسوية التي تستعمل هذه الورقة.
والتعدد اللغوي موجود في معظم دول العالم، لوكسمبورغ مثلا لها 6 لغات وظيفية رسمية، سويسرا، الدنمارك وكوريا... فالتعدد بالنسبة للجزائر آية من آيات الله، وهو جيد، ثم إن الأمازيغية والعربية شقيقتان، لأن القاموس اللغوي واحد ومشترك يصل إلى حدود 60 من المائة، تبقى بعض الأنماط والأصوات تختلف لكنها سهلة جدا.
الأمازيغية شقيقة للعربية ومكمّلة لها وهي من هويتنا وإرثنا الذي يجب أن نحافظ عليه جميعنا، لكي لا يستغل من أناس يريدونه ورقة لتركيع الدولة.
لما جاء الفاتحون لهذه البلاد، حدث صراع على الأرض، لكن لم يحدث بشأن اللغة، فقد قبلوا الأمازيغية لأنها لغتهم، والعربية عند الأمازيغ مقدسة بشكل كبير، باعتبارها حاملة للقرآن الكريم.
والعربية لغة باقية وخالدة، فلماذا نخاف منها. يخاف منها الذي يريد أن يحنّطها، هي إبداع وثقافة. علينا أن نخرج من الروتين المقيت والمميت، حتى تزدهر، لأن اللغة استعمال.
وعلاقتنا بالمحافظة السامية للأمازيغية علاقة تكامل. عقدنا اجتماعا أوليا معها ومع المجلس الإسلامي الأعلى، لإنجاز ندوة في التعايش اللغوي.
وقضية إنشاء الأكاديمية جيد جدا، لأننا حين نعطيها للأكاديميين، نخرجها من السياسوية وتذهب إلى المختصين، الذين لا يتفقون على ضلال.
- كيف ترون دور الإعلام في مسار النهوض باللغة العربية؟
أراهن على قناتين في مهمّتنا، هما المدرسة ووسائل الإعلام. والإعلام المطلوب هو الذي يرقى باللغة ولا يعتمد على لغة السوقة، كونه يجمع بين السمع والبصر والمكتوب وعندما يخدش الخطاب، فهو لا يحترم أذواق المتلقّين.
ونراهن عليه لما له من أثر في المتلقّي واعتماده على لغة الواقع لا يعمل على الترقية اللغوية. قد يكون مقبولا أحيانا، لكن الصحافي مطالب بوضع المصطلح المناسب، يخاطب الناس حسب مقولة “أنزلوا الناس منازلهم”، وهنا يساهم في ترقية الرفع من مستوى اللغة ويحترم خصائصها.
ولا مانع أن نقرأ كثيرا ونضع رسكلة، مثلما هو الحال بالنسبة للمعلمين. واقترحت أكثر من مرة، أن تكون مواد في قضايا النحو والصرف في كليات الإعلام. لأننا نريد أن نخرج صحافيا متملكا لآليات اللغة ويكون له إبداع.