طباعة هذه الصفحة

اليوم العالمي للغذاء.. التحديات والرهانات

الاستثمار الفلاحي في قلب المعركة الاقتصادية

سعيد بن عياد

الاكتفاء الذاتي في المواد الإستراتيجية، وتحسين معادلة التصدير

يحتفل العالم ومعه الجزائر باليوم العالمي للغذاء الموافق لـ 16 أكتوبر من كل سنة، ورسمت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة سنة 1979 هذا اليوم الموافق لتأسيسها في سنة 1945.
 يجري إحياء المناسبة ضمن الأهداف المحددة التي ترمي إلى نشر الوعي وتعميقه تجاه الفقر ومظاهر الجوع وتحسيس الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص في التنمية البشرية من بوابة الاقتصاد والاستثمار في الزراعة.
وتتلخص الأهداف المتوخاة من هذا اليوم في جملة محاور هامة تتمثل في رفع مستوى الوعي بمشاكل الجوع في العالم، تشجيع الاهتمام بالفلاحة ونقل التكنولوجيا في بلدان العالم الثالث، تقوية التضامن الدولي ضد الجوع وسوء التغذية والفقر، تشجيع سكان الأرياف خاصة النساء في اتخاذ القرارات والخيارات التي تمس بحياتهم وكذا تشجيع التعاون الاقتصادي والتقني في البلدان النامية.
ومنذ سنة 1981 بدأت اعتماد موضوع خاص بكل سنة وشهدت السنة الماضية 2015 معاجلة موضوع الزراعة والحماية الاجتماعية(التصدي للفقر في الريف).
للتذكير تأسست الفاو في 16 أكتوبر 1945 من طرف 42 بلدا من طرف 42 بلدا بالكيبيك. ويرجع الفضل في فكرة أعلنتها المجر من خلال وزيرها للزراعة.
التنمية الريفية علاج للفقر وفك العزلة
تولي الجزائر أهمية متميزة لمواجهة مظاهر الفقر ومكافحتها من خلال اعتماد خيار التنمية الفلاحية خاصة في الأرياف وهذا منذ سنوات طويلة ولا تزال نفس القناعة اليوم حيث تحتل الفلاحة بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي مكانة في أولويات المرحلة المقبلة من أجل رفع تحدي الأمن الغذائي الذي أصبح الشغل الشاغل للمجموعة الدولية خاصة في ظل أزمة الاقتصاد العالمي واضطراب أسواق المحروقات. ونتيجة هذا الأمر بالذات عاد التركيز على الفلاحة التي تستفيد من دعم هائل بمختلف أشكاله كجسر عبور إلى أهداف الأمن الغذائي بإمكانيات ووسائل محلية مع إدخال التكنولوجيات الجديدة للرفع من مؤشرات الإنتاج وتحسين الجودة ومن ثمة إنجاز هدفين حيويين، الأول يتعلق ببلوغ مستوى مقبول من الاكتفاء الذاتي خاصة بالنسبة للمواد الإستراتيجية، والثاني يتعلق بتحسن معادلة التصدير إلى الأسواق الخارجية.
ويرتقب أن تكون السنة الحالية امتداد- لكن بنوعية- لمسار جعل الفلاحة وكافة فروعها بما في ذلك الصيد البحري المعركة الاقتصادية الكبرى لبناء أسس بديلة للتبعية للمحروقات وضمان تحسين مستويات التغذية في وقت يتأكد فيه أن الغذاء تحول بالفعل إلى انشغال عالمي لا يقل حساسية في العلاقات الدولية عن المواد الإستراتيجية الأخرى مثل المياه والنفط. لهذا يندرج الأمن الغذائي في البرامج والمشاريع المتعلقة بمختلف القطاعات ذات الصلة تتقدمها الفلاحة والتنمية الريفية التي قطعت أشواطا ملموسة يؤكدها التغير الجوهري للريف عبر كافة المناطق من التراب الوطني حيث ارتقى الريف إلى مرتبة متقدمة من حيث تقليص مساحة الفقر والتهميش والعزلة. ويعكس وجه الريف في الجزائر بعد سنوات من التنمية المستمرة تحسن معدلات التنمية البشرية وأولها مستوى المعيشة من خلال الغذاء بفضل انخراط الساكنة فيه في ديناميكييه الاستثمار الجواري عن طريق المشاريع الصغيرة في الفلاحة الجبلية وتربية الحيوانات والصيد البحري بالنسبة للمناطق الساحلية. وأظهرت السنة الفلاحية الأخيرة توجهات إيجابية لمسار الأمن الغذائي بالرغم من بقاء بعض الجوانب السلبية التي تتطلب متابعة وترقية لمعالجتها بما يقوي من توازن الغذاء بالمعايير الدولية خاصة فيما يتعلق باستهلاك المنتجات ذات القيمة الغذائية مثل الحبوب، اللحوم الحمراء، الحليب والبقوليات والسمك وهي فروع اقتصادية أساسية تمثل قاعدة التغذية في حدودها الدنيا خاصة خلال الأزمات الاقتصادية. كما تحققت مكاسب ملموسة على صعيد توفير الموارد المائية من خلال إنجاز سدود جديدة ومحطات للتطهير لإعادة المياه المستعملة إلى الدورة الاقتصادية.
العقار الفلاحي ضمانة ديمومة الغذاء
لا يزال العقار الفلاحي في بلادنا محل جدل وموضوع نقاش لا يتوقف، وعاد الحديث حوله في الآونة الأخيرة بإعلان السلطات المعنية أنها عازمة على الذهاب بعيدا باتجاه استرجاع الأراضي الفلاحية التي تم تحويلها أو الاستيلاء عليها بطرق غامضة وغير قانونية إدراكا لأهمية المساحات الزراعية في تحقيق الأهداف الاقتصادية الكبرى على طريق التحول الاقتصادي وتأمين الغذاء في ظل وضع اقتصادي عالمي غير مستقر أصبح فيه الغذاء موضوع مساومات وضغوطات.
ويرتقب أن تكون هذه السنة الموعد الأخير مع الحسم في مسألة الأراضي الزراعية بتأطيرها بشكل دقيق من الجانب التشريعي وإطلاق مسار استرجاع المساحات المحولة وإدراج كل التراث العقاري الفلاحي في الديناميكية الاستثمارية بما في ذلك الأراضي التابعة للقطاع الخاص بحيث لم يعد مقبولا في نظر السلطات العمومية وهو أمر حقيقي بقاء فضاءات صالحة للزراعة في مختلف المنتجات معطلة أو مهملة أو معروضة لأغراض أخرى- كالبيع في سوق الترقية العقارية- لا مجال لها طالما أن الأمر يتعلق بالأمن الغذائي ضمن معادلة الأمن الشامل.
انفتاح على الشراكة الأجنبية
لكن الاعتقاد بأن الأمن الغذائي مسألة في المتناول ضمن الإطار المحلي لا يبعث على الاطمئنان بالنظر للإمكانيات المتواضعة وقلة الوسائل التكنولوجية التي تساعد على تكثيف الإنتاج وترقية جودته وفقا للمعايير الدولية وبأقل كلفة، مما يدفع إلى الانتقال إلى مرحلة ذات طابع صناعي يواكب الأسواق العالمية وذلك بتوسيع خيار الانفتاح على مسار الشراكة الأجنبية من خلال اطلاق مشاريع وبرامج إنتاجية مع متعاملين احترافيين لديهم تموقع في أسواق نشيطة يتوفر فيها الطلب بحجم كبير.
ويسجل ضمن هذا التوجه وجود عدد من المشاريع بالشراكة مع متعاملين من أمريكا مثلا ينبغي ان تتواصل لتجسيدها في الميدان لتفادي الوقوع في سلبيات إضاعة الوقت الذي يشكل الحلقة الجوهرية. ويتطلب الرفع من وتيرة الشراكة ذات الطابع الاستراتيجي تجنيد العقار الزراعي المطلوب مما يضع السلطات المحلية خاصة في الهضاب العليا والجنوب أمام امتحان حقيقي لاظهار مدى قدرتهم على إدراك تحديات التنمية وفقا للنموذج الاقتصادي للنمو الذي ينطلق من المبادرة المحلية لتتوسع وطنيا تبعا لرؤية استراتيجية ترتكز على أهداف دقيقة تترجمها حصيلة بالأرقام التي لا يكذبها واقع السوق.
الصناعة الزراعية والتحويلية قاطرة
وحتى تكتمل السلسلة بانسجام وتكامل ينبغي أن تدخل الصناعة الغذائية التحويلية معركة الأمن الغذائي وذلك بدءا من إدخال تغييرات على الذهنية الاستثمارية للمتعاملين الجزائريين وذلك بأن يتحولوا من النمط التقليدي الذي صنعه الريع النفطي وثقافة المرافقة المطلقة إلى نمط المغامرة وركوب المخاطرة التي تصنعها الجرأة. ويتطلب هذا التحول إدراك مدى ثقل المؤشرات الراهنة وحجم الفرص المتاحة في كافة المجالات سواء المادية أو المالية أو التحفيزية.
ويؤدي هذا المسار إلى ضرورة أن يبدأ التغيير من موقع المتعامل والمستثمر الوطني نفسه والانتقال إلى مستوى متقدم في السوق الاستثمارية التي تشكل قاعدة الأمن الغذائي ليس بالتركيز على جانب الانتاج لتلبية الطلب المحلي فقط إنما التوسع إلى مستوى التصدير إلى الخارج.
 وقد أظهرت الأشهر الأخيرة مثلا وجود إمكانيات معتبرة لبلوغ هذا الهدف المركزي الذي يدرج في صميم بناء اقتصاد إنتاجي ومتنوع خارج المحروقات، وذلك برصد جملة من العمليات التصديرية لمواد ومنتجات زراعية مثل البطاطا والخضروات في انتظار ان يتم التكفل من جانب آخر بتحسين معدلات إنتاج مواد أساسية مثل الحبوب والحليب والبقوليات التي تشكل جانب الضعف في المنظومة الافتصادية عامة والزراعية خاصة، ومن جانب آخر تنظيم وضبط معالجة مواد لها ثقل في التصدير مثل التمور وزيت الزيتون والاسماك الثمينة وغيرها من المواد الموسمية التي يمكن للجزائر ان تعبر بها إلى الأسواق الخارجية بدون تعقيدات لما فيها من قيمة غذائية على غرار الفاواكه الطازجة التي لا تستعمل فيها مواد كيماوية.
البحث العلمي ضمانة للمستقبل
 وبالمقابل فإن التحكم في حلقات مسار الأمن الغدائي بكل جوانبها يتطلب مراعاة مسألة ربط كل تلك الاستراتيجية بعالم البحث العلمي ونشاط مراكز التجارب في مجالات الفلاحة بكل فروعها بما في ذلك إدخال التكنولجيات الجديدة للاتصال والرقمنة خاصة في تسيير المواد المدخلة كالمياه ومراقبة نمو الإنتاج سواء النباتي أو الحيواني من أجل التحكم في الجودة وتقليص الكلفة.
ويقود هذا إلى حتمية التزام المنهج الجواري بأن تخرج الجامعة ومركز البحث التطبيقي من دائرة العمل النظري إلى التواجد في الميدان حيث توضع الكفاءة العلمية على المحك وبالتالي تقييم جانب النجاعة التي تعطي تأشيرة دخول الأسواق. وبدوره ينبغي أن يقتنع المتعامل خاصة صغار الفلاحين بأن اللجوء إلى الجامعة ومراكز البحث والتنمية يمثل جسر عبور إلى المستقبل بحيث يمكنهم حينها من امتلاك المناعة لمواجهة المنافسة الخارجية التي تطرق باب السوق المحلية وتهددها في الظرف الراهن إذا لم تكن هناك مبادرة لتحسين الأداء في كافة المجالات التنظيمية بأحداث التعاونيات والإنتاجية بإدخال التقنيات التكنولوجية بما في ذلك ما يتعلق بالمواد الصناعية المدخلة مثل المبيدات واأدوية الزراعية ومن ثمة يمهد الطريق أمام الأمن الغذائي الملموس.