أعوان حماية مدنية ضحايا تهور الشباب والأطفال
يقتحمون المخاطر، يهرعون لصرخة واستغاثة الآخرين، ويغامرون بحياتهم لأجل إنقاذ أرواح ملايين المبحرين.. هم “حراس الشواطئ” من أعوان الحماية المدنية، الذين تطوعوا واختاروا “سباحة الموت” لا لشيء سوى لتلبية نداء أطفال أو شباب أو شيوخ جرفتهم أمواج البحر، ليكونوا بمثابة ملائكة الرحمة الذين أرسلهم الرحمن لأجل منحهم حياة أخرى جديدة.
بالرغم من أنهم يدركون بأن الموت متربص بهم في أي لحظة، إلا أنهم يلقون بأنفسهم وسط أمواج البحر العاتية، ولا هم لهم في ذلك الوقت، سوى الخروج بالمصطاف سالما نحو شاطئ الأمان.
حراس الشواطئ أغلبهم شباب لا يتعدى سنهم الـ40 سنة، عيونهم ساهرة لأكثر من 10 ساعات، يتجولون ذهابا وإيابا فوق الرمال ليس للاستجمام والراحة، وإنما لتبقى عيونهم مشدودة نحو البحر لأجل حماية كل من يرتاده من المصطافين، خاصة منهم الأطفال والشباب المتهور، لا سيما وأن هناك الكثير من هذه الفئة التي لا تبالي بالمخاطر المحدقة بها، هدفها فقط التباهي والابتعاد قدر الإمكان عن الشاطئ أو المخاطرة بالسباحة والراية الحمراء مرفوعة.
”عيون يقظة لسلامة المصطافين”
فتحت أشعة الشمس الحارقة وبعيون يقظة، يقضي حراس الشواطئ يومياتهم، ينقذون هذا ويحذرون ذاك، منهم من يستمع لنصائحهم، ومنهم من يضرب بها عرض الحائط، صرخاتهم تتعالى بين الحين والآخر خوفا على أمنهم وسلامتهم، يُوفّقون في إنقاذ مصطاف من الغرق ويفشلون في إنقاذ حياة آخر وثالث يكون مصيره مجهولا وقد لا يعثرون عليه إلا بعد أيام..
وبالمقابل قد يكون مصير عون الحماية المدنية بدوره الغرق، حيث يدفع حياته ثمنا مقابل حياة شخص آخر دفعه تهوره للمغامرة بنفسه وتحدي أمواج البحر الغادرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر حادثة مؤسفة شهدتها ولاية عنابة مع بداية موسم الاصطياف للسنة الجارية بوفاة عون حماية مدنية يبلغ من العمر 22 سنة، كان في مهمة إنقاد طفل بصدد الغرق، يبلغ من العمر 16 سنة وإرجاعه سالما إلى الشاطئ لكن عون الحماية المدنية فقد حياته بسبب المجهودات الكبيرة التي بذلها، ما أدى إلى إجهاد قلبه وسقوطه مغشيا عليه، حيث لبى نداء الطفل الذي أبحر بالرغم من أن السباحة كانت ممنوعة، كما شهدت ولاية بجاية منذ أيام فقط وفاة الشاب “بن جيدر فيصل” عون حماية مدنية بشاطئ “اغزر لبلاط” بسوق الاثنين، يبلغ من العمر 27 سنة، كان بدوره في مهمة إنقاذ ناجحة لطفل يبلغ من العمر 14 سنة، ينحدر من ولاية بسكرة، وبعد عودته إلى الشاطئ وقع مغشيا عليه ليفارق بعدها الحياة، وتعد هذه الحالة عينة فقط تشهدها يوميا مختلف ولايات الجزائر، لشباب أرادوا تلبية واجب الضمير المهني ويقدمون حياتهم فداء لغيرهم.
”مخاطر ومغامرات يعيشونها يوميا”
«نعلم أننا قد نذهب لمساعدة أحد الغرقى ولن نعود للشاطئ سالمين”، “أن تنقد حياة شخص يستنجد بك أفضل من الحياة”، “إن غرقنا فنحن شهداء الواجب”.. هي تصريحات أدلى بها عدد من حراس الشواطئ الذين التقتهم “الشعب” بعدد من شواطئ عنابة، تحدثوا إلينا وأعينهم لا تتوقف عن حراسة المصطافين وصفارة الإنذار التي يحملونها لا تتوقف عن التصفير لتحذيرهم من أي خطر يحدق بهم.
في هذا الصدد يقول “محمد الأمين عاشوري” والذي يبلغ من العمر 38 سنة أنه التحق بهذه المهنة منذ 07 سنوات، حين صادفته حادثه غرق طفل أمامه، ولحسن الحظ أنه كان يتواجد بجانبه فقام بإنقاذه من موت محتوم، وهي الحادثة التي أثرت في نفسه كثيرا وفي نفس الوقت أشعرته بالسعادة، وهو ما رسخ في ذهنه فكرة الالتحاق بحراسة الشواطئ.
وخلال 07 سنوات قال محمد أمين أنه قام بإنقاذ أكثر من 200 مصطاف من مختلف الفئات، لكن الحظ لم يسعفه خلال مشواره الإنساني لإنقاذ أكثر من 20 شخصا، حيث كتب الله لهم الموت في عرض البحر، مؤكدا بأن هذه الحوادث تسبب لهم في أغلب الأحيان أزمات نفسية كونهم يعتبرون المصطافين مسؤولية وجب الحفاظ عليها.
مخاطر عديدة تحدق بهم، ومغامرات لا متناهية يعيشها حراس السواحل يوميا، يغامرون بأنفسهم بأبسط الإمكانيات، يحملون فقط صفارة تنبيه، وتغيب عنهم الإمكانيات التي تساعدهم على أداء مهامهم على أكمل وجه، هذا ما قاله عون بالحماية المدنية “محمد كباري” الذي يعمل بشاطئ “طوش” مؤكدا بأنه يعملون في ظروف صعبة تحت أشعة الشمس، بداية من الثامنة صباحا إلى غاية السابعة مساء، وأحيانا يضطرون للعمل إلى ساعة متأخرة من الليل، على اعتبار أن الكثير من المصطافين أصبحوا يفضلون السباحة ليلا.
وأضاف المتحدث بأن حراس الشواطئ يوفرون لهم فقط الزعانف البحرية وكذا صدرية النجاة، مستغربا في ذات السياق عدم توفير “الجت سكي” لتأمين راحة المصطافين وتسهيل الوصول إلى مواقع الحوادث لإنقاذ الغرقى وإسعاف المصابين في البحر، بدل الاعتماد على السباحة، وهو ما يؤدي إلى الوصول إلى المستغيث في غالب الأحيان بعد فوات الأوان، وقد وافقه الرأي زميله “سفيان عامري” الذي طالب بدوره بضرورة توفير ما يحتاج إليه عون الحماية المدنية لأجل ضحايا أقل، خصوصا وأن شواطئ عنابة باتت تسجل حوادث يومية.
”أزمات نفسية وحوادث لا تُنسى”
حوادث بقيت راسخة في أذهان حراس الشواطئ، خصوصا من ينتشلون جثثا، أو من لا يستجيبون للإسعافات الأولوية بعد الخروج بهم إلى الشاطئ، وهو ما حدث مع “سليم منصف” الذي يعمل عون بالحماية المدنية منذ أزيد من 10 سنوات، قائلا أنه صادفته العديد من الحوادث التي أثرت كثيرا على نفسيته، خصوصا إذا كان الغريق طفلا، وقد أعاد علينا حادثة وقعت له منذ 03 سنوات، أين كان أحد المصطافين يسبح رفقة ابنه البالغ من العمر 03 سنوات، وفي لحظة فقده من بين يديه وفي محاولة منه لإنقاذه تعرض بدوره للغرق، حيث تم انتشال جثيهما بعد محاولات عديدة لإنقاذ حياتهما، مؤكدا بأن الكثير من المصطافين يجهلون خبايا البحر، وبأن به العديد من المطبات التي تؤدي بحياتهم في أي لحظة.
أما “كمال شطيبي” ويعمل بشاطئ “لاكاروب” فروى لنا أنه تعرض لأزمة نفسية حادة مرتين أدخلته المستشفى، وذلك بسبب وفاة طفلين بين يديه، أحدهما يبلغ من العمر 07 سنوات والثاني 12 سنة، مؤكدا بأنه حاول إسعافهما قدر الإمكان غير أن القدر كان أسبق، وهو ما أثر في نفسيته كثيرا، خصوصا وأن أحدهما استفاق قليلا وسط فرحة أهله، لكنه عاود الغياب عن الوعي بعد 05 دقائق فقط ليفارق الحياة، قائلا “لكم أن تتصوروا بعدها ذلك الجو المحزن الذي يسود الشاطئ من قبل عائلة الغريق، وحتى المصطافين”، وأضاف “كيف لنا أن ننسى مثل هذه الحوادث، فواجبنا الإنساني ينادينا ولا يمكن أن نتأخر عنه”.
«فتيات يرغبن في اقتحامها”
وتبقى مهنة حراس الشواطئ من أنبل المهن التي يلجأ إليها الشباب على وجه الخصوص، بالرغم من المخاطر التي تواجههم، يقتحمونها وهم على علم بأنها قضية حياة أو موت بالنسبة لهم، قد يفلح في إنقاذ الغريق وقد يفشل، أو قد يخسر هو حياته، وبالرغم من ذلك يسارع إلى قدره، مواجها التيارات البحرية والأمواج العاتية، ملبيا نداء الضمير ونداء مصطافين أغلبهم متهورون لا يحسنون فنون السباحة وليسوا على دراية بخبايا ومخاطر البحر.
ليس الجنس الخشن وحده من يريد ركوب موجة الموت، فقد صادفنا من الجنس اللطيف من يريد اعتناق هذه المهنة، كعمل إنساني، مؤكدين بأن ما قدره الله لهم سيكون، وفي هذا الصدد تحدثث إلينا “مروة.ع” طالبة في السنة الرابعة حقوق، قائلة بأنه لو فُتح المجال للعنصر النسوي لحراسة الشواطئ فلن تتأخر عن ذلك، معتبرة ذلك مهمة إنسانية.
وحين سألناها كيف لها بمفردها أن تنقذ رجلا أو شابا قوي البنية، قالت إن ذلك لن يكون بمفردها وإنما بمساعدة أعوان الحماية المدنية من الرجال، وأضافت أنها بإمكانها مساعدة فتاة أو طفل صغير بمفردها بعد التدرب على تقنيات الإسعاف وكيفية الإنقاذ، قائلة “لا يوجد في هذه الحياة أفضل من إنقاذ حياة شخص آخر”.