تشهد شوارع وأزقة أحياء شعبية بالبليدة في شرقها وغربها ووسطها، خلال الأيام الحارة الصيفية، إنزالا للمتسولين من كلا الجنسين، ومن مختلف الالوان واللّغات و اللّهجات والملبس أيضا، يرافقهم أطفال ملائكيون لا يدركون ما يدور من حولهم، ولا ماذا يفعل هؤلاء بهم، والمثير للإنتباه أنهم باتوا ينتشرون في نقاط ومواقع هامة واستراتيجية، يتفاجأ الراجل والراكب في سيارة أو شاحنة، كيف يظهرون من دون سابق انذار لربح صدقات الناس، إلا أن الملاحظة التي شدت الجميع هي كثرة الصبايا من المتسوّلات والنساء مدججين بأرمدة من الاطفال على اختلاف أعمارهم، صنعوا ديكورا مأساويا بمدينة الورود وعبر طرقاتها العريضة وشوارعها، عادة ما يختفون عند قروب موعد غروب الشمس.
“الشعب “ رفعت تلك المشاهد والصور المأساوية وغير المشرفة، وغادة بصور تبين في جانب منها حقائق مثيرة، تستدعي التدخل ورعاية الظاهرة وفق الاطر القانونية والصحية والاجتماعية اللازمة.
متسوّلون ومتسولات في رحم أزمة سير ...
من المستحيل بمكان و زمان، أن تضطرب حركة السير عبر الطرقات الرئيسية والسيارة السريعة، بسبب حادث مروري أو ورشة صيانة لمنشأة فنية وما شابه، و لا تظهر صورة التسوّل ترافق تلك الحوادث والاشغال، والدليل البيّن أن الطريق السيار شرق غرب مثلا، بات مسرحا مهما جلب ويجلب إليه العشرات من المتسوّلين والمتسولات، وهم و هن يحملن في أيديهن أواني لجمع المال، يستغلون توقف وبطء حركة السير في المرور بين المركبات، و ألسنتهم وألسنتهن يذكرن مقاطع “تسول” تستعطف كل ذي قلب حجري، أو فاقد لحنية و عطف، تحرجهم و تجعل الكثير منهم يمد يده الى جيبه و يتصدق بدنانير وأحيانا أكثر، والغريب ان اللافت في كل تلك الظاهرة أن المستولين و المتسولين لا يتعبن بل تجدهم و تجدهن يتحركن من رواق مروري الى آخر، وهم وهن يتمتعون بذلك، وفي بعض المشاهد تحمل سيدات و قد تنقبن حتى لا يبدين ملامحهن و لا يتعرف عليهن الخلق، رضعا على ظهورهن و قد قيدوهم بما يشبه أحزمة الامان في السيارات، و هي الصورة التي أصبحت ترافق خاصة عمل ورشات صيانة الطرقات .
شاي وكتيبات الأدعية ووصفات طبيب للايقاع بالزبائن ...
بعض المتسولين اهتدوا الى حيل ماكرة، مهما حاول “الزبون” بين قوسين النجاة منهم ومنهن، إلا أنه يقع في شراكهم وحيلتهم ولا يستطيع الإفلات من تلك الحيل الماكرة، وتظهر تلك الطرق الماكرة في أن مستولين طوروا من مناهج التسول، و اهتدوا الى بيع الشاي مثلا، فيما البعض اقتنوا كتيبات ذكر و دعاء، وعرضوها على المسافرين وأصحاب المركبات والمارة من الناس، وهم يتفنون في التغني بما يشبه الطلاسم والترانيم، تسحر الانسان وتحرجه فعلا وتجعله يدفع دون شعور أو ادراك منه، وكأنه تعرض لعملية تنويم ممغنط، أما القليل منهم فاهتدى الى وضع وصفات طبية أو علب لأدوية لأمراض مزمنة، وقد افترش الطرقات وجلس أمام المحلات التجارية، ويكتفي بذلك دون أن يتكلم، وهنا يقع الاحراج الكبير، فالمار يستحي و لا يرفق بالمريض، و يتصدق عليه بعد أن يكون قد نجا من زملاء متسولين آخرين، ويقع في الحيلة و هو يحتار أيفرح بصنيعه أم يحزن و هو يضحك على نفسه بأنه وقع فريسة لحيلة مصطنعة.
كل يصلح للتسوّل ...
من ابداعات المتسولين وخرجاتهم التي أصبحت أحيانا لا تصدق و خارقة للمعقول والمنطق المعلوم، أن بعض المتسولين وجدوا في الناس حشمة و حياء، فاستغلوا تلك النفوس ولم يتحرجوا، دليل المثال، أن سيدات من فئات الكهول والعجائز ، اخترن المطاعم و محلات البيتزيريا والوجبات السريعة، وتسمرن أمام الابواب و تحين ميعاد وجبة الغداء وأسدلن على وجوههن نقابا طويلا و مددن أيديهن، و حفظن عبارات سحرية محرجة، وأطلقن العنان لألسنتهن التي تطوعهن ولا ترفض لهن طلبا، و وقفن منتصبات يتفرسن بأعين أطلت من وراء ذلك النقاب، في أعين كل جائع قدم على تلك المحلات ليهدئ من جوعه ويسكن معدته بلقيمات مسمومة بزيت قديم، و طعام غير نظيف وهو مرغم، وليس للداخل من بد سوى أن يتكرم و يدفع وجبة كاملة للسائلة أو يتصدق عليها بدنانير ادخرها ليضيفها في مصروف يومه وحاجة داره.
مشهد آخر عجيب غريب، هو أن ترى متسولا ربما تصّنع وتقدّم من كل زبون محل بيع اللحوم الحمراء والبيضاء، وهمس في أذنه وقال له أنه هو وعائلته لم يتعشوا بالأمس وليس لديهم ما يفطرون عليه اليوم، ولديهم مريض وهو يطلب قليلا من تلك أنواع اللحوم، فلا يجد المسكين من حيلة، خاصة وإن كانت معه دنانير زائدة إلا أن يلبي له طلبه وهو محرج غير راض، و المشهد الثاني الذي ظهر جديدا و لم ينتشر بكثرة، أن يفاجئك مستول صاحب هندام و “لوك “ محترم و يتقدم منك و أنت بمحطة الوقود أو ركنت سيارتك في موقف عام، و يسلم عليك وأنت مدهوش من هذا الشخص؟، ويطلب منك القليل من المال، فوالده ونؤكد “ الوالد “ بالمستشفى و قد جلبه من ولاية بعيدة و لم يبق لديه من المال للعودة و جلب المال لأجل شراء طعام و فاكهة تليق بمقام “ الوالد “ المسكين المريض، وتراه يتلون بين الاصفر والأحمر و الخجل حتى يخيل إليك أنك أمام صبية يراد خطبتها، فلا مفر منه وتخرج ما حملت معك من المال وتعطيه وأنت ساكت لا تعلم ما الذي حدث لك، وصدق من قال: فعلا بأن السحر يفعل بالانسان ما لا يفعله له ترياق أو دواء طبيب.
دعوات لمحاربة الظاهرة ...
أمام تحول الشوارع الرئيسية والأزقة والأبواب العتيقة المشهورة بها عاصمة المتيجة البليدة، دون نسيان أفنية المساجد، التي تحولت إلى محطات انزال كثيف للمتسولات على وجه الخصوص مرفوقات بأسلحة بشرية مكونة من رضع و أطفال و بنات صغار، لاستعطاف المارة من المتسوقين الذين يقصدون خاصة السوق القديم الكائن وسط المدينة للتبضع، والأمر أنها باتت تتخذ عناوين قريبة جدا من مقرات إدارية غير مهتمات و لا مهتمين بالامر، تعالت في الافق دعوات من مواطنين و مجتمع مدني، يدعون إلى محاربة الظاهرة والتي باتت تحسب بالارقام، وتروى عنها قصص أشبه بالقصص الخيالية وغير الواقعية، وينقل سمير أحد سكان المدينة في شهادة منه لـ “الشعب “، بأن الامر فاق التصور المعقول، وأنه يذكر أنه حضر مشهدا لم تصدقه مسامعه و لا عيناه، حينما تقدم أحد المتسولين الى إحد الصيادلة و بحوزته ما يعادل الـ 5200 دينار عبارة عن قطع نقدية أراد أن يحولها الى عملة ورقية، وأنه في فضول منه سأل الصيدلي الذي تربطه علاقة بالمتسول، عن حقيقة ما شاهده، فأجابه و هو كله استغراب، بأن الامر بات روتينا يتكرر كل يوم، وهي ليست المرة الاولى التي يقصده فيها لتحويل قطعه النقدية التي يستجمعها من صدقات الناس، ويضيف بأن فيه متسوّلون لا يقبلون أي صدقة ما عدا النقود، و يقول فريد في تعجب واستياء بأن عناصر الحماية المدنية كثيرا ما يتدخلون لإسعاف طفل احدى المتسولات التي ربما تكون قد استأجرته للتسول به، بسبب ألم أصابه في بطنه أو لفحة شمس أو برد، بل أن مرة عالج عناصر الامن قضية غريبة وقفوا على العجب، حينما وجدوا في مسكن إحدى المتسولات تعرض مسكنها لحريق، لاوراق نقدية بالملايين محترقة في بعضها و سليمة في بعضها الاخر، كانت تلك الأوراق كافية أن تجعل منها سيدة محترمة، و تكفيها السؤال، بل كان بإمكانها أن تستثمر في مشروع تجاري يضمن لها العيش الكريم، لكن كل ذلك لم يحدث واحترقت الدنانير المجمعة وذهبت مع أول عود ثقاب، وضاعت تلك المدخرات ولم ينتفع بها أي انسان.