يقضي المرء حياته في الكتابة، ويحترف صفّ الكلمات والجمل والفقرات والمقالات، ووصف الأحداث ونقل الآراء ونقد الأفكار، حتى يكاد يفعل ذلك بطريقة آلية.. ولكن بمجرّد أن يتعلق الأمر برحيل شخص عزيز، تتعطّل لغة الكلام، ويفقد الكاتب ملكة الكتابة، ويطوّعه الحزن ويرتحل به إلى سراديب الصمت والعجز..
قبل أيّام، نزل كالصاعقة خبر الحادث المروري الذي أدخل زميلتي أمال مرابطي المستشفى وأخضعها لعملية جراحية مستعجلة، ولكنني استلهمت من اسم زميلتي، وأبقيت الأمل قائما، وحافظت على بصيص من يقين بأنها ستخرج من محنتها سالمة معافاة.
ولكننا أردنا، وأراد الله، وكان ما أراد الله وقدّر، “والله يفعل ما يريد”..
أمال التي عرفت، باسمة على استحياء، مقبلة على الحياة، محبّة للتعلّم، حاملة لفضول إيجابي، وهاجسها الإعلامي لا يكاد يخبو، شغوفة بعملها ومهنتها، حتى أنها تجاري في شغفها ألمع الأقلام وأكبر الأسماء الصحفية.. معطاءة لا يعرف جودها الحدود، وإن هي وعدت فلا تخلف الوعود.. كلامها طيب، وقلبها أطيب، ترمي بدلوها في عديد البحار، وتغرف منها ما تيسّر من أفكار.. عرفتها مساهمة في جميع الصفحات، بلا كدّ ولا تذمّر..
أذكر أنني طلبت منها مساهمة في ملف “الشعب” الثقافي الأسبوعي، فكان ردّها بالإيجاب كعادتها، وأرسلت عملا يستحق الإطراء، فرفعت سمّاعة الهاتف، وكلّمتها وعبّرت لها عن تشكّراتي وامتناني، وشجعتها على المضيّ قُدُما.. أذكر ردّة فعلها وكأنها الآن: شعرت بسعادة تغمرها، وفهمت حينها أن مجرّد العرفان بمجهودها يكفي لكي يزيدها عزما وثباتا وإصرارا على التفوق، وهي سمات الصحفي الجدير بالاحترام.
لم تكن أمال تكاد تضيع وقتا، وكانت غزيرة الكتابة حتى أني سألتها مرة إن كان لديها سرّ تخفيه، فأجابت بأنها تحبّ ما تفعل، ولا تهوى تضييع الوقت فيما لا ينفع.. هل كان ذلك إحساسا دفينا بأنها لن تعمّر طويلا في هذا العالم الهلامي الفاني؟ ربّما، ولكنها رحلت وعلى ثغرها ابتسامة ملائكية، وكأني بها توجه إلينا رسالة من العالم السرمدي، تقول: “لا تبكوا ولا تحزنوا، فقد نثرت الحبّ وأنا فوق الثرى، ولا أريد أن أراكم تقطفونه حزنا وأسى وأنا تحته”..
لقد شاء العليّ القدير أن أتكفّل بتشذيب آخر حوار تركته أمال قبل أن تغادرنا، وكُتب عليّ أن أكون من يكتب عبارة: “حاورته: الزميلة الراحلة أمال مرابطي”.. فعلتُ ذلك وفي القلب حرقة، وفي الحلق غُصّة، ولكنّ المهنة التي جمعت بيني وبين زميلتي الراحلة علّمتنا أن نُؤثِر القارئ على أنفسنا ولو كان بنا غمّ أو كَدَر.
طوبى لك يا أمال.. التحقتِ بالرفيق الأعلى في جنّة رضوان بحول الله، وتركتنا محزونين على فراقك، ولا نقول إلا ما يرضي الله.. أدعو الرحمن الرحيم أن يغفر لكِ ويرحمكِ ويعافيكِ ويعفو عنكِ، ويكرم نزلكِ ويوسع مدخلكِ ويغسلكِ بالماء والثلج والبَرَد، وينقيكِ من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأن يفسح لكِ في قبركِ وينوّر لكِ فيه..
أمال.. قد تكونين شمعة انطفأت مبكّرا جدّا، ولكنّ نورها صعبٌ أن يؤول إلى عدم، كالنجم في السماوات العلى، يندثر ويزول، ولكن شعاعه يبقى ينير دُجنة الديجور.. لن أقول وداعا.. بل أقول: إلى الملتقى في عوالم أفضل..