يتوفر قطاع السياحة الوطنية على موارد هائلة جغرافية وبشرية تعكسها منشآت تمر بمرحلة إعادة تأهيل ومشاريع جارية الانجاز، غير أنها لا تزال خارج معادلة النمو بحيث لا تزال مساهمتها ضئيلة في الرفع من وتيرة القيمة المضافة في وقت يرتقب فيه أن تمسك وزارة القطاع مجددا بالمعطيات وإخضاعها للتحليل المعمق من أجل تحديد جوانب الخلل واتخاذ التدابير الملائمة لتصحيح الوضعية، قصد تدارك التأخر المسجل بالرغم من الفرص المتاحة والجهود الكبيرة المبذولة، طيلة السنوات الأخيرة ولا تزال متواصلة لوضع السياحة على السكة السليمة، فتتحول إلى مصدر إنتاج الثروة خاصة بالعملة الصعبة، عن طريق استقدام السياح الأجانب وكبح تصدير السياح المحليين.
مراجعة الأرقام وتدقيق في جدوى المشاريع
يولي الوزير عبد الوهاب نوري اهتماما لملف السياحة باعتبارها موردا اقتصاديا ينبغي أن تسجل انطلاقة قوية في وقت قياسي بحيث تنخرط كلية في الديناميكية الاستثمارية والتنموية لاستغلال كافة الإمكانيات الموجودة، وهي معتبرة من حيث المنشآت والمواقع الخلابة، على امتداد السنة والكفاءات البشرية، مما يضع سوق السياحة الوطنية، وفقا لكل منطقة وفصل، على درجة من الجاذبية والتنافسية، باتخاذ القليل من المبادرات ممكنة التجسيد وإطلاق مشاريع ملائمة تراعي بالأخص المحيط والبيئة، دون السقوط في ورطة مشاريع ضخمة ذات كلفة وتتطلب وقتا طويلا لإعادة إنتاج القيمة المالية للاستثمارات. ويعكف مسؤول القطاع على تفكيك مفاصل الملف لصياغة ورقة طريق واقعية وواضحة المعالم لا مجال فيها سوى للأرقام الحقيقية، مع الحرص على تحسين مؤشراتها باستمرار، بدءا بتكريس الاحترافية وتعميق الثقة في الكفاءات الاحترافية التي يعود إليها الأمر في تجسيد السياسة الوطنية للسياحة الاقتصادية.
في هذا الإطار، تعرف المؤسسات الفندقية والمركبات السياحية العمومية عمليات إعادة تأهيل وتجديد لمرافقها وعصرنة تجهيزاتها لتستجيب للمعايير الدولية، فيما يجري انجاز جملة من المشاريع الفندقية التابعة للقطاع الخاص، على امتداد التراب الوطني، مما يبشر بمؤشرات ايجابية تبرز في المديين القريب والمتوسط لتستعيد السياحة مكانتها في السوق كقطب محوري، يرافق مسار بناء اقتصاد إنتاجي ومتنوع غير مرتبط عضويا بالمحروقات التي لا تزال تعاني من انهيار أسعارها، وقد يطول أمد تعافي أسواقها، مما يعزّز ضرورة الدفع بالسياحة ومختلف القطاعات الإنتاجية الأخرى إلى الواجهة، لتؤدي دورها الاقتصادي من خلال تحقيق مداخيل مالية بالعملة الصعبة خاصة.
يمكن للسياحة أن تحقق قفزة ملموسة في هذا المجال وبأقل الأعباء بالنظر للمؤشرات الايجابية في مجال النشاطات نفسها والمحيط العام المتميز بالأخص بعناصر لها دلالات اقتصادية على غرار الاستقرار والأمن والتحسن المسجل في المنشآت القاعدية من طرق ووسائل النقل المختلفة، إلى جانب إدراك المؤسسات والعاملين في القطاع لأهمية الدور المنوط بهم في هذه المرحلة بحيث يضاعف إطارات المؤسسات السياحية العمومية منها وكذا الخواص الاحترافيين من الجهود في مختلف مجالات التسيير(المناجمنت) واقتصاد النفقات والتكوين الموجه للعنصر البشري، الذي يحسم في نهاية المطاف مسألة التنافسية وتحقيق القيمة المضافة عن طريق جودة الخدمات وتنويع العروض وتنمية التواصل مع الزبائن من خلال بناء حلقة الثقة المفقودة، منذ مدة جرّاء الهوة العميقة بين الخدمة السياحية وأسعارها المرتفعة ورغبة المستهلك وقدرته الشرائية.
يركز عبد الوهاب نوري في هذا الجانب بالذات على أهمية انفتاح المؤسسات السياحية بمختلف أصنافها على السوق الداخلية في مرحلة أولى، تؤسس للانطلاقة الجديدة، وذلك بطرح خدمات في المتناول وتراعي القدرة الشرائية للمواطن والأسرة الجزائرية قصد إعادة بناء الثقة وتنمية وتيرة الإقبال، خاصة بإخضاع الأسعار المعمول بها على مستوى المؤسسات الفندقية والمركبات السياحية لمعيار التوازن والعقلانية، انطلاقا من أن المطلوب، اليوم، ليس تحقيق الربح في أجل قصير بقدر ما يتعلق بكسب ثقة الزبائن والرهان على الأجل الطويل في إعادة قيمة الاستثمارات، علما أن جانبا هاما من عناصر إنتاج الخدمات السياحية لا يكلف المؤسسات، وإنما هو هبة من الله يكفي حسن استغلالها وتوظيفها على غرار الشواطئ والجبال والمنابع المعدنية، وغيرها مثل الصحراء وكنزوها الرائعة من كهوف ومنحوتات تروي تاريخ المناطق المختلفة وقاطنيها في عمق التاريخ.
الجماعات المحلية في الواجهة لاقتناص الفرصة
في خضم هذا التوجه الواقعي لإعادة تموضع قطاع السياحة بكافة نشاطاته على مستوى السوق الداخلية، تقف الجماعات المحلية من جانبها أمام هذا التحدي، انطلاقا من الخصوصيات الإقليمية والتنوع الجغرافي المحلي بكل ما يرتبط به من صناعة تقليدية ومهن حرفية يمكن إدراجها في الصناعة السياحية من جهة، وكذا من المردودية المالية والاقتصادية التي يمكن تحقيقها لتكون السياحة الجوارية والجماهيرية مصدرا يعوّض قدرا معتبرا من المداخيل التي تعزز الميزانية المحلية وتسمح للبلديات بضمان تمويلات لمشاريعها التنموية الصغيرة والمتوسطة.
يمكن للجماعات المحلية باعتبارها شخصا معنويا يعنيه ما يحدث من تحولات ومطالب بالمشاركة في مواجهة المرحلة بإمكانيات ذاتية أن تدخل مرحلة الاعتماد على الذات في تجنيد مواردها المحلية من بوابة السياحة بالنظر لما تتوقف عليه مختلف المناطق من فضاءات جذابة وقابلة للاستغلال بأقل التكاليف، بل يمكن التوجه إلى إقامة مشاريع استثمارية خفيفة ذات أبعاد جهوية تقحم أكثر من بلدية.
في هذا الإطار، كان تحرك وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين بدوي، مؤخرا، بتنقله إلى مستغانم ذات المميزات السياحية الجوارية، حيث وضع مسؤولي الجماعات المحلية أمام مسؤولياتهم لمواكبة التطورات على مسار النموذج الاقتصادي الجديد، الذي يرتكز في جوهره على تحرير المبادرة وإدراج الجماعات المحلية في المعركة الاستثمارية كطرف معني بانجاز الأهداف التنموية بإمكانيات محلية، والكف عن انتظار ما ترصده الميزانية العامة للدولة، التي تخضع للتدقيق ومراقبة توجيه مواردها ضمن معادلة ترشيد النفقات.
في هذا السياق، أشار بدوي من خلال تلك الزيارة ذات الدلالات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل بالبلدية أو بعدد من البلديات في مشاريع استثمارية تضامنية ومندمجة متعاملا اقتصاديا منتجا للثروة مهما كان حجمها، بحيث يمكن للجامعات المحلية، اليوم، بإطلاق مشاريع جوارية ذات مردودية وليس هناك نشاطات أفضل وفي المتناول، مثل السياحة التي تتطلب روح المبادرة والانفتاح على المحيط واعتماد معايير التنظيم والحوكمة في التسيير، ذلك أن هناك وجهات سياحية إقليمية وعالمية تجيد تسويق الطبيعة وتستثمر في ثقافة الاستقبال وقيم الضيافة، لتحقق موارد مالية تتجاوز أحيانا ما تدره المحروقات، علما أن الجزائر تتوفر على كنوز طبيعية تنتظر فقط من يحسن قراءة مؤشراتها ويفك شفرتها الاستثمارية من خلال مشاريع مسطرة ودقيقة الحسابات، حيث لا مجال فيها للتهاون أو التسيّب.
من خلال قاطرة السياحة، على رغم بطئها أحيانا، يمكن لكثير من البلديات أن تنطلق في سوق السياحة الجوارية من خلال عرض خدمات في المتناول وتتلاءم مع الفصول المختلفة والتركيز خاصة على العطل المدرسية وفصل الصيف بفتح فضاءات تستقبل السياح المحليين من كافة جهات الوطن، لا يتطلب التكفل بهم وإسعادهم في ظل القيم الجزائرية وتحت مظلة الأمن سوى توفير شروط الراحة والنظافة والمرافقة والإطعام التقليدي الذي يمكنه أن يستعيد مكانته بإقحام الأسر والمزارعين الصغار الذين يجدون في تحسن مؤشر الطلب فرصة لتسويق إنتاجهم وتحسينه ومن ثمة تتحرك عجلة التنمية المحلية في أعماق المناطق الداخلية، وتلك المصنفة و المعزولة اقتصاديا.