طباعة هذه الصفحة

رأي

لحظة الكتابـة

بقلم: الدكتورة حفيظة طعام

لعل أصعب سؤال توجهه للكاتب هو أن تطلب منه أن يصف لك لحظة الكتابة؟؟ سينفعل، يتلعثم، تخونه لغته، ولن يجد ما هو كاف من الألفاظ ليصف لك هذه الحال الهستيرية. إن لحظة الكتابة من أصعب اللحظات...، لحظات تولد فيها الكلمات من قريحة الكاتب فتصرخ عالما بكامل تفاصيله، عالما بكل تداعياته، وتجلياته، وملامحه بانسيابه، بشفافيته وغرابته... لذلك تجد الكاتب منعزلا مهموما كلما راوده حس الكتابة وكلما زاره شيطانها في أوقات لا يختارها، هي تلبسه كل المتناقضات فتراه مشتتا، ثائرا، غاضبا، خائفا... باحثا عمن يدثره، بداخله شيء يتحداه، يمزقه ويحاول هو التصدي له، تفلت حواسه من قبضته وتختلط لديه الأزمنة وتطرده الأمكنة، يراودها عن نفسها فتستعصي، يعقد معها العهود فتخونها... الكتابة ضرب من المستحيل، نهر يتجدد باستمرار، هي أروع مزيج بين قدرة العقل وسلطة اللغة وسحر الخيال وقدسية الخلق. هي تعري العاشق وتكشف أسراره.. وتحرر المجنون من قيوده، وتكلم الصامت وتحرك الساكن... وحدها قادرة على صبر أغوار النفس وتشكيل ما صعب تشكيله.
هي تحكي تاريخ الإنسان، تحكي خيباته، آماله وآلامه وتختبر في المقابل مدى قدرة صبره على زئبقيتها ومرونتها ومدى بلوغه لنشوتها. فمتى كانت الكتابة صعبة المنال ،كانت أجمل وأرقى متى كانت تعبة كانت مرغوبة متى استعصت جذبت من حولها، متى تكبرت وترفعت استقطبت عددا كبيرا يحاولون إرضاءها. كلما حملت الكتابة هذه المواصفات وتحلت بها جذبت عددا من القراء المميزين، فالقارئ يكون حسب مستوى الكتابة، وليس كل قارئ قادرا على القراءة، فهناك كتابات ترفض بعض القراء وتستصغر حجم ثقافتهم وتحيلهم إلى كتابات أخرى بحجمهم... الكتابة الجيدة تستقطب أجود القراء المؤولين للحرف المفكين لرموزها المراودين لها بشتى الطرق، هي تستعصي وتتدلل، لتبقى عذراء قادرة على الاستقطاب من جديد لينظر قراء آخرون في تطورها اللاحق. في الأخير تؤكد لحظات الكتابة على إنتاجية الكتابة والقراءة معا وقدرتهما على التناسل والتوالد.