النزعة الانفصالية تبناها خطاب سياسي
توقف الأستاذ طارق رداف من جامعة أم البواقي عند الحدث السياسي الذي زلزل العالم قبل يومين، جراء تصويت البريطانيين على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.وحدّد لـ«الشعب” أسباب هذا الخيار الصادم للكثيرين ونتائجه، وعرّج على تداعياته وآلية تنفيذه.
”الشعب”: ماهي قراءتكم لنتائج الاستفتاء البريطاني؟
طارق رداف: لابد من الإشارة إلى أن علاقة البناء الأوروبي ببريطانيا لم تكن علاقة طبيعية، بل هي في الأساس علاقة غير منسجمة مع المعايير والمبادئ التي قام عليها هذا البناء. يعرف الجميع أن بريطانيا كانت معارضة للمشاركة في الجماعة الأوروبية المشتركة سنة 1957، ولم تقدم طلبا للانضمام إلا لاحقاً وهو المسعى الذي تعطل بسبب المعارضة الشديدة للجنرال ديغول، لذلك لم تحصل على العضوية إلا سنة 1973. ومن جهة ثانية فإن السلوكات البريطانية داخل التكامل الأوروبي، لم تكن تنسجم مع سلوكات الدولة كاملة العضوية، فهي لا تدفع مساهمة في الميزانية الأوروبية بالقدر المتوجب عليها، استناداً إلى الناتج الداخلي الخام، حيث أعفيت من دفع كامل مستحقاتها، في حين تقوم دول أخرى بدفع الفارق (وفق آلية التصحيح البريطاني)، كما أنها لم تُشارك في الكثير من السياسات الأوروبية الكبرى، والتي ميزت الاتحاد عن غيره من التكتلات الإقليمية، حيث بقيت خارج الاتحاد النقدي ومنطقة اليورو، وخارج السياسات الأمنية والدفاعية المشتركة، وكذلك خارج منطقة شنغن...إلخ، وبذلك فهي أقرب إلى العضو غير الكامل العضوية. ولا تعتبر هذه الوضعية جديدة بل هي صفة لصيقة ببريطانيا منذ انضمامها إلى التكامل الأوروبي، وجسدته مارغريت تاتشر من خلال رفض المشاركة المالية في السياسات الأوروبية عبر إطلاقها ندائها الشهير “نريد استعادة أموالنا”، حيث ترفض بريطانيا تمويل سياسات لا تستفيد منها بشكل مباشر.
من جهة ثانية فإن النزعة الانفصالية تعتبر جزءًا من الخطاب الشعبوي في بريطانيا، الذي يتبناه فريق من حزب المحافظين وكذلك بعض الأحزاب الصغيرة الناشطة على مستوى البرلمان الأوروبية، مثل حزب الاستقلال البريطاني الذي تبنى منذ فترة طويلة هدف إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبية والذي يوصف في خطاب هذا التيار بوصف “الاتحاد السوفياتي الجديد”.
مع ذلك لم يجد هذا التيار صدى كبيرا في الساحة البريطانية والأوروبية بشكل عام، إلا مع عاملين أساسيين يتمثل الأول في الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت أوروبا منذ 2008، ويتمثل العامل الثاني في السياسات الأوروبية تجاه حرية تنقل العمالة وكذلك حول الهجرة ومشكلة اللجوء. وهو ما يؤكد الافتراض القائل بأن التيارات المتطرفة والشعبوية لا تجد مجالاً خصبا للنمو وكسب فضاءات جديدة إلا في حالات الأزمة والاضطرابات الاقتصادية. ويظهر هذا بشكل واضح من خلال نتيجة الاستفتاء، حيث فاز المؤيدون للانفصال بنسبة 52% ضد 48% لصالح البقاء، وهذا يعني أنه لا يوجد فرق شاسع بين الفريقين، وأن نتيجة الاستفتاء كانت ستكون مختلفة لو أجريت في ظروف سياسية واقتصادية مختلفة، حتى أن هذا الاستفتاء لم يكن مطروحا كفكرة في ظل أوضاع اقتصادية أحسن.
يتخوّف كثيرون من تداعيات الطلاق البريطاني ـ الأوروبي، فما قولكم؟
أولاً مازال الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي غير رسمي حتى مع ظهور نتائج الاستفتاء، لأن خروج بريطانيا يكون بعد تقديمها لطلب رسمي، وكذلك انتهاء مرحلة التفاوض حول الخروج مع بقية الأعضاء.
مع ذلك يُمكن القول أن التداعيات الأساسية لخروج بريطانيا من الاتحاد، ستنحصر بشكل أساسي في الجانب الاقتصادي. سواء على المدى القصير أو الآني مثل التأثير على أداء الأسواق المالية أو سعر صرف العملة، حيث انخفض سعر صرف الجنيه إلى أدنى مستوياته منذ منتصف الثمانيات. غير أن هذه الآثار ليست ذات معنى، حيث يُمكن تغير مؤشرات البورصة وأسعار صرف العملة في مدى زمني قصير من خلال تدخل عوامل مختلفة قد تؤثر في أسواق العملة. مع ذلك فإن الآثار البعيدة ترتبط بالعلاقات التجارية والاقتصادية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، حيث يتوجب عليها إعادة التفاوض حول هذه العلاقات، خاصة حول حرية تنقل السلع والخدمات والأشخاص. ولا يخفى أن ما يقارب 50% من صادرات بريطانيا موجهة نحو دول الاتحاد. وقد سبق وأن اعتبرت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية أن بريطانيا في حالة انسحابها من الاتحاد، لن تستمر في التمتع بالمزايا التجارية التي حصلت عليها بموجب عضويتها في الاتحاد.
ماذا عن التداعيات السياسية؟
سيطرة البعد الاقتصادي لا يمنع وجود نتائج سياسية للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهي تداعيات داخلية بالأساس. فمباشرة بعد إعلان نتائج الاستفتاء أعلنت رئيسة وزراء اسكتلندا وزعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، أن مستقبل بلادها لن يكون خارج الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيعطي زخما أكبر لمسعى تيار الاستقلال في اسكتلندا للخروج من سلطة التاج البريطاني، علما أن الحزب حصل على أغلبية مقاعد البرلمان، ويتزعم تيار الانفصال عن بريطانيا وسبق له وأن نظم استفتاء سنة 2014 حول هذا الهدف.
كما أن هذا المشهد قد يتكرر في إيرلندا الشمالية، والتي أعلنت التيارات الاستقلالية فيها رغبتها في تنظيم استفتاء لتحقيق الاستقلال، وقد يقود هذا المسعى حزب “الشين فين” والذي قاد لفترة زمنية طويلة حرب عصابات ضد الحكومة البريطانية من أجل الاستقلال عن طريق ذراعه العسكري المعروف بالجيش الجمهوري الإيرلندي، قبل توقيع اتفاق الجمعة العظيمة سنة 1998 والذي تضمن مبدأ أن تغيير وضع إيرلندا الشمالية لابد أن يكون عبر استفتاء شعبي تنظمه الحكومة البريطانية.
مع ذلك لا أتوقع تأثير الخروج البريطاني على السياسات الأوروبية المندرجة ضمن السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، باعتبار بريطانيا لا تشارك في هذه السياسات استناداً إلى حق الامتناع The Opting Out، والذي تم استحداثه (لسخرية الأشياء) لضمان عدم عرقلة بريطانيا لسير هذه المجالات التكاملية.
..وعن آلية تنفيذ الإنسحاب ومدّته؟
تضمنت معاهدات الإتحاد الأوروبي ثغرة قانونية حول مسألة انسحاب الدول من عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الفراغ الذي تم التعامل معه مع معاهدة لشبونة 2007، والتي تضمنت ترتيبات خاصة بالانسحاب. واستناداً إلى الفقرة 2 المادة 50 من المعاهدة فإن نتيجة الاستفتاء لن تكون ذات قيمة، إلا إذا تقدمت بريطانيا بطلب الانسحاب إلى المجلس الأوروبي، ويتوجب عليها التفاوض حول ترتيبات الانسحاب مع كل الدول الأعضاء. كما تحرم الفقرة 4 الدولة المنسحبة من المشاركة في اجتماع المجلس الأوروبي المنعقد لمناقشة ترتيبات الانسحاب، وبالتالي فهذه الدولة تُحرم من مناقشة الترتيبات التي يُقرها الاتحاد الأوروبي بشأن خروجها من العضوية، وبالتالي تُفرض عليها كأمر واقع. علما أن التصويت على إقرار ترتيبات الانسحاب لا يكون عن طريق الإجماع بل عن طريق الأغلبية الموصوفة وعليه لن يكون بمقدور أي من الدول ممارسة حق الفيتو المرتبط بنظام الإجماع. وعليه فإن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي قد تستغرق مدة زمنية طويلة، قد تصل حسب بعض التوقعات إلى 10 سنوات رغم أن معاهدة الاتحاد حددت المدة الزمنية لإتمام الإجراءات في سنتين كأقصى تقدير، وهو ما قد يؤجل الانسحاب البريطاني.
مع ذلك فقد سمحت الفقرة 5 نفس المادة للدول المنسحبة بالتقدم بطلب من أجل الانضمام من جديد إلى الاتحاد الأوروبي، لكن عليها اتباع نفس مسار الانضمام باعتبارها دولة غير عضوة في الاتحاد. أي أن الانسحاب لا يعني قطيعة نهائية مع الاتحاد الأوروبي، بل يمكن إقامة علاقات شراكة أو حتى إعادة الانضمام من جديد وفق الترتيبات المتضمنة في معادة الاتحاد الأوروبي.