أولت الثورة التحريرية الجزائرية منذ انطلاقتها مسألة الصحة أهمية كبيرة، على اعتبار أنها تحتل جانبا أساسيا ومهما في دعمها وتنظيمها وتأطيرها، ولما لها من تأثير على نجاحها، فمنذ البداية فكر المجاهدون جديا في كيفية التداوي ومكانه؟ حسب ما جاء في مقال نشر بمجلة المرأة لمخبر الدراسات المغاربية لجامعة وهران للأستاذة عائشة حسيني محاضرة بقسم العلوم الإنسانية بجامعة ابن خلدون بتيارت.
وأوضحت الأستاذة في هذا الشأن، أنه على هذا الأساس تم التعامل مع الوضع على حسب الإمكانيات المتوفرة، ولذلك نلاحظ عن هذا النظام أنه اختلف خلال السنتان الأولى والثانية، للثورة نوعا ما عنه بعد انعقاد مؤ تمر الصومام، الذي أوجد الهياكل الضرورية للثورة، بل أقرها ونظمها وعلى رأسها مصلحة الصحة، قصد الابتعاد عن المستشفيات الاستعمارية، خاصة وأن الرقابة الفرنسية أصبحت مكثفة في مختلف المجالات سواء خارج أو داخل المدن، وبالأخص داخل المستشفيات.
وكانت تعتقد أن أفراد جيش التحرير الذين تشتبك معهم يلجؤون لا محالة نحو مستشفياتها للتداوي، ومن خلالها تتمكن من التعرف عن هوية المجاهدين، وتستطيع الوصول إلى أعماق المجتمع لإعاقة تواصل التنظيم الثوري بها. مشيرة إلى أن هذه الإشكالية فرضت نفسها على قادة الثورة منذ البداية في الولاية الرابعة، ولهذا فكروا جديا في كيفية التعامل معها، والتعامل مع الجرحى من أفراد جيش التحرير والشعب بهذه المنطقة ومصادر التموين بالأدوية ومدى نجاح التنظيم الصحي في جلب المواطنين ومنعهم من الذهاب نحو المستشفيات الفرنسية.
واستشهدت حسيني بما جاء في مذكرات الكومندون عز الدين في كتابه «الفلاقة»، بأنه عندما أصيب في بداية الثورة بقي جرحه ينزف لمدة من دون دواء ولا حتى الإسعافات الأولية، وفي النهاية أرسل إلى العاصمة بالتعاون مع بعض المناضلين المدنيين المجندين من طرف عبان رمضان، ومن بينهم لخضر رابح، عبد القادر معروف، حسين البوشي، الذين كانوا على اتصال بالدكتور بيار شولي، الذي تولى منذ بداية الثورة مساعدة المجروحين، من الثوار ودعمهم بالدواء، كما ساهم في تعليم البعض منهم مبادئ التمريض في شقته بالعاصمة، وتشجيعهم على الالتحاق بالثورة، وذلك في غاية السرية.
وأبرزت في هذا الإطار، أنه في حال السؤال عن هوية المصاب وسبب إصابته يتم تمويه السائل بأنه ابن عائلة معروفة بالمنطقة، وتعود كسوره إلى سقوطه من على ظهر الحصان مثلا، هذا في الحالات المستعصية أما في الحالات العادية أو التي لا يستطيعون إرسال صاحبها إلى العاصمة فيستعينون بالأعشاب والأدوية الشعبية المعروفة، مثل العسل وزيت الزيتون في جميع الحالات، ولا يمنع هذا من وجود بعض الأدوية التي حصلوا عليها من مناضلي العاصمة، كالكحول والأسبرين، والضمادات.
ولكن تداولها كان لا يصل إلى معظم نواحي المنطقة، فالناحية الثانية كان يتواجد بها الدواء أكثر من النواحي الأخرى، ولما تفطنت السلطات الاستعمارية إلى تسرب الأدوية نحو الجبال فرضت رقابة مشددة على الصيادلة في العاصمة، وحسب ذات المصدر فإن مسألة الصحة لم تكن غائبة منذ البداية عن تفكير الإطارات الأوائل، ولهذا بذلوا جهدا للحصول عليها نظرا لأهميتها، وتحاشي الوقوع في يد السلطات الاستعمارية إلا في الحالات الضرورية.
اعتمدت إستراتيجية قادة الثورة في البداية على أساس، إيجاد جهاز سياسي وعسكري لجبهة وجيش التحرير الوطنيين، بحيث يكون هذا الجهاز قادرا على شرح معنى وأهداف الثورة بإيصالها إلى الفئات الدنيا من الشعب، قصد انتزاع تأييدهم وتوطيد علاقات متينة قائمة على أساس التعاون المتبادل بين السكان وقيادة الثورة، فإن مشكلة التداوي والصحة لأفراد الجيش والشعب على حد السواء، ظلت مطروحة بحدة على إطارات الولاية.
وقالت الأستاذة حسيني أنه نظرا لنقص الإطارات وصعوبة إيجاد مراكز صحية قادرة في البداية، كان المرضى يحولون إلى المدن إثر العمليات الحربية لتلقي العلاج في المستشفيات الفرنسية، رغم ما في ذلك من خطورة على أمنهم، ولتحاشي الوقوع في يد السلطات الاستعمارية تمت الاستعانة ببعض الإطارات الطبية، والممرضين الذين كانوا يعملون بمستشفيات العاصمة أو على علاقة وطيدة بأطباء فرنسيين يساريين، ومعروفون بمواقفهم الإيجابية من الثورة التحريرية الجزائرية.
إضراب الطلبة في 19 ماي ساهم في دعم مصلحة الصحة
وأضافت أنه، تطبيقا لقرارات مؤتمر الصومام وتوصياته بضرورة تنظيم ودعم مصلحة الصحة، فقد تم عقد لقاء بجبال الزبربر في سبتمبر 1956، ضم إطارات السلك الطبي على مستوى الولاية الرابعة تم خلاله وضع نظام صحي يتماشى والتنظيمات التي أحدثها مؤتمر الصومام، فصار لكل منطقة طبيبها الخاص، وكل ناحية مركز صحي يشرف عليه ممرض، أو أكثر ولكل كتيبة ممرض بإمكانه تقديم الإسعافات أثناء المعارك. وأشارت إلى أن إضراب الطلبة في 19 ماي من سنة 1956، ساهم في دعم مصلحة الصحة خلال هذه المرحلة إلى حد بعيد، حيث التحق 157 طالب بصفوف جيش التحرير بالولاية الرابعة وحدها، بغض النظر عن تلاميذ الثانويات الذين لم يعرف عددهم بالتحديد، ما مكن الثورة من إنشاء مراكز صحية أخرى أدت دورا مهما سواء لأفراد جيش التحرير أو المواطنين، ومن الأطباء الذين التحقوا في هذه المرحلة بالولاية: − العقيد حسن يوسف الخطيب، سنة ثانية طب الذي عين طبيبا عن المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة، الدكتور إسماعيل دهلوك محفوظ، سنة خامسة طب، الدكتور المعبد حرموش سنة رابعة طب الذي عين طبيبا عن المنطقة الأولى بالولاية الرابعة.
بالإضافة إلى العديد من الطالبات من أمثال الشهيدة مريم ممرضة وفاطمة حسين المدعوة فريدة، ومريم بن محمد فيما بعد، وغيرهن من الطالبات اللائي أثرن التضحية بمستقبلهن العلمي وحياتهن في سبيل القضية الوطنية. وبهذه العناصر تكونت المراكز الصحية الأولى بالولاية الرابعة، وتطورت فيما بعد حسب ظروف الحرب.
وتميزت المنطقة السادسة عن غيرها من مناطق الولاية الرابعة، بتنظيم محكم ودقيق لنظامها الصحي، وأهم ما أهلها هو استعمال الإمكانيات المادية والبشرية، بفضل المناضلين العاملين في المستشفى الجامعي مصطفى باشا وغيره، كما عملت القيادة على إنشاء شبكة لجمع وتهريب الأدوية وتوزيعها على المراكز الصحية للجيش. ورغم كل هذه الصعوبات، نشطت شبكات الاتصال بالمناضلين العاملين في المستشفيات والصيدلية المركزية مما سهل الحصول على الأدوية الضرورية للتمريض والعمليات الجراحية، وتوزيعها على المراكز الصحية القريبة من العاصمة، مثل المركز الذي كان موجودا بمزرعتي بن مرابط وبن ونيش ببرج الكيفان الذي اكتشفته السلطات الاستعمارية في أكتوبر 1956، ونتج عنه القضاء على القائد العسكري علي خوجة الذي أرعب السلطات الاستعمارية بعملياته الجريئة على مستوى جبال الولايتين الرابعة والثالثة.
ولضمان السير الحسن لمراكز العلاج فرض على كل طبيب وممرض، أن يقدم تقريرا شهريا مفصلا عن الأعمال التي قام بها، وعن عدد المجاهدين الذين استقبلهم المركز والمواطنين الذين تفقدهم وعالجهم والأدوية التي نفذت بالمركز، والتي دخلت إليه، علاوة عن التغذية والنظافة والمصاريف وملاحظات عامة عن الصعوبات والعراقيل التي واجهته أثناء أداء مهامه.
وبعد اعتماد المناطق المحرمة بالولاية، أعاد قادة الولاية النظر في الإستراتيجية الحربية ككل والتي نتج عنها تنظيم مراكز العلاج تنظيما يتماشى مع المرحلة، حيث تقرر تحويل مراكز العلاج بصفة نهائية نحو الغابات والجبال، كما قل الدواء كثيرا خلال هذه المرحلة بسبب فرض الرقابة على شراءه والعمليات التمشيطية ولهذا لجأ مسؤولوا المراكز الصحية إلى حفر مخابئ سرية بجوار مراكز العلاج، وفي حال قدوم الجيش الفرنسي يوضع بها العاجزون عن السير ويتجه القادرون نحو الجبال ريثما ينتهي تمشيط المنطقة.
وحفاظا على سرية العمل أنشات عدة مراكز للفرز فمن اقتضت معالجته بها عولج هناك، وان كانت حالة المريض تستدعي البقاء بالمركز الصحي يرسل إليه، كما تمت إقامة شبه مستودعات للمؤن والأدوية تم اختيار أيضا أماكن مناسبة لإيواء الجرحى في حالة القصف الجوي والمدفعي. وأصبح التداوي من أصعب الأمور عندما فرضت الرقابة المشدّدة على الأدوية، حيث أصبحت تتم العمليات الجراحية تحت أغصان الأشجار، يستعمل فيها المنشار الحديدي لقطع العظام، وشفرة الحلاقة والخيط العادي لخياطة وقطع اللحم واستعمل بدل الكحول العطر.
وتجري هذه العمليات والمريض غير مخدر، أغلبها تتم بغرض انتزاع الرصاص، وعلاج الكسور والجراح، بالإضافة إلى بعض الأمراض كالسعال والصداع، وكان غالبا ما يلجأ الطبيب إلى الأعشاب في حالة انعدام الأدوية.