صارت الأوركسترا السمفونية الوطنية تملأ المسرح دونما عناء كبير.. هذا ما لاحظناه في حفل سهرة أول أمس الخميس بالمسرح الوطني محي الدين بشطارزي، الذي استقبل جمهورا غفيرا جاء ليشجع المواهب الشابة التي اقترحتها الأوركسترا، ويستمتع بأدائها الراقي.. وإذا كانت الملاحظة الأولى هي الجمهور، فإن الملاحظة الثانية تتعلّق بالتكوين والتأطير الذين جعلا من هؤلاء الشباب يضمنون التواصل بين أجيال الإبداع.
كانت سهرة حالمة بجميع المقاييس.. أن ترى شبابا يعتلون ركح مسرح هو في الأصل دار أوبرا العاصمة الجزائرية، وخلفهم أوكسترا بسمعة الأوركسترا السمفونية الوطنية وقيمتها الفنية العالية، وأمامهم جمهور غفير بات معتادا على هذا النوع من الحفلات وعارفا ومتذوقا ما يسمع، فهو في ذات الوقت الحلم الذي لا يضاهى والتحدّي الذي لا يسهل رفعه.
كان من ضمن الحضور الأمين العام لوزارة الثقافة ممثلا للوزير ميهوبي، وعدد من الأسماء المعروفة في سماء السياسة والإعلام، مثل الدكتور محي الدين عميمور والأستاذ محمد بوعزارة. انطلق الحفل بعزف مقطوعة لروسّيني (افتتاح وليم تل)، قبل أن تؤدي السوبرانو المتألقة أنيسة هجرسي “بورجيا آمور” جزءً من الأوبرا الشهيرة لموزارت “زواج فيغارو”، التي ألفها سنة 1786 وقصتها مستوحاة من قصة بنفس العنوان للكاتب الفرنسي بومارشيه، وهي تكملة لقصة سبقتها لنفس الكاتب هي “حلاق إشبيلية”. وبخامة طبيعية دون استعمال أي مكبر للصوت، ارتقت أنيسة هجرسي إلى أعلى الطبقات الصوتية مع عملها على الحضور المسرحي، فكانت بذلك واحدة من نجوم هذا الحفل.
ثم أدت أنيسة أغنية الراحلة وردة “حرمت أحبك” بتوزيع موسيقي لحسين بويرفو، قبل أن يعتلي الركح التينور عمارة حاج عيسى، مؤديا “أو سولو ميو” لدي كابوا.. وكانت قمة المتعة الأوبرالية حينما أدى الصوتان معا جزءً من “ترافياتا” للموسيقار فيردي.
حضور قوي وصوت شجي، هو الانطباع الذي تركه المغني زهير مازاري، الذي أدى أغنية جاهاغ فزاف للفنان القدير آكلي يحياتن، بتوزيع كلاسيكي بطبيعة الحال. ويمكن أن نتوقع أن يكون هذا المغني الشاب من أجمل الأصوات التي ستمثل وتثري الأغنية الجزائرية في المستقبل القريب.
ولم تكن المواهب الشابة وحدها نجم الحفل، فقد أمتعت الأوكسترا السمفونية في أكثر من مرة من خلال مقطوعات ومعزوفات أشهر من نار على علم، مثل مدخل “بحيرة البجع” للعالمي تشايكوفسكي، والفالز الثاني لكوستاكوفيتش.
مولاي مكي واحد من الشباب الذين تألقوا أول أمس، بعزفه المنفرد على القيثار رائعة ألبنيز، بتوزيع موسيقي من رشيد ساولي.. وقد تلقى مولاي من التصفيق عند اعتلائه المسرح ما دفع المايسترو أمين قويدر بالتعليق مازحا: “يبدو أنه زيدان الموسيقى”.
أما محمد أمين بن الخالدي فكان بحق أحد أهم اكتشافات هذه السهرة، بعد أن عزف منفردا على البيانو واحدة من أجمل مقطوعات الموسيقار شوبان، وهي “فانتازيا أنترمبتو 66”.. وتكمن روعة ما قدمه محمد أمين في الزمن القياسي الذي وصل فيه إلى هذا المستوى، إذ قبل الالتحاق بالدراسات العليا للموسيقى، كان يعزف بشكل عصامي موسيقى الروك وما شابهها، حسبما صرح لنا به حينما التقيناه في الكواليس.. وما هذا سوى عامه الرابع من العزف في مجال الموسيقى الكلاسيكية.
ولم يكن عازف الساكسفون خليل روازمي أقل موهبة، على الرغم من تعثره حين أدائه مقطوعة الجاز الشهيرة “تايك فايف”، والغالب أن الارتباك هو السبب. غير أنه تدارك الوضع باقتدار حينما أبدع في استخبار وأداء رائعة المرحوم أحمد وهبي “قلبي قلبي”، بتوزيع موسيقي من حسين بويرفو.
وكان ختامها مسكا، حيث أبدع الشاب محمد فؤاد تركي على آلة الماريمبا حينما أدى مقطوعة للموسيقار مونتي. أما الثنائي حسان بلقاسم بن عليوة على آلة القانون، ورياض بوعلام على آلة العود، فقد تألقا حتى لامسا النجوم لما أديا مقطوعة للموسيقار بيزي وجزءً من السمفونية الأربعين لموزارت تحت عنوان “موزار الجزائر”، وجاءت هذه التسمية بعد التوزيع الموسيقي للمايسترو أمين قويدر الذي “جزأر” هذه المقطوعات العالمية. وتميز عازف القانون حسان بلقاسم أيما تميز، ليضاهي بذلك أمهر من يداعب هذه الآلة الأصيلة.
بعد تكريم الأمين العام للوزارة لهؤلاء الشباب، اقتربنا من مدير الأوكسترا الوطنية عبد القادر بوعزارة، الذي أكد لنا أن الهدف من هذا الحفل هو إعطاء الفرصة للشباب حتى يظهروا مواهبهم، ويثبتوا أنهم قادرون على رفع التحدي وحمل المشعل، ومواصلة تمثيل الثقافة الجزائرية على أكمل وجه في المستقبل، كما اعتبر أن هذا الحفل هو ثمرة السياسة التي تنتهجها الأوركسترا، من اعتماد على العلم والتكوين الصحيح، الذي إذا أضيف إلى الموهبة، فإن النتيجة ستكون جميلة جمال الموسيقى العالمية.