مجازر 08 ماي 1945 وصمة عار في تاريخ المستعمر الفرنسي، شهدت تنفيذ الإعدام بحق الأبرياء بطريقة غير إنسانية. فأين المفر يا فرنسا من تاريخ يكتب ولا يرحم؟. الكثير والكثير حاولوا توثيق الأحداث لتبقى شاهدا من شواهد العصر، وتحمّلوا مسؤولية جمعها، أحداث أريد لها “ أن لا تموت “ مع مرور السنين مع غياب من عايشها. من بين هؤلاء الموّثقين الكاتب محمد بن رقطان الذي قام بجمع شهادات ووثائق سنة 1985 من خلال لقاءات مع رجال وشهود عيان عاشوا تلك الأحداث. كل التفاصيل تنقلها “الشعب” في هذه الدردشة معه.
أوضح الكاتب بن رقطان لـ “الشعب”، عقب زيارتها لمنزله، أن ما وثقه حول الأحداث كان عن طريق شهادات ودراسات وتحقيقات، حرص أن يقدمها للقراء بكل نزاهة وأمانة في كتيب، شهادات، كما أدلى بها أصحابها الذين يتحملون وحدهم كل تبعات نزاهة الأمانة التارخية، شهادات شهود عيان من المجاهدين والمناضلين والمواطنين الذين أسهموا في صنع هذه الأحداث أو عايشوها وتفاعلوا معها، كما اعتمد في البحث من خلال ما كتب بأقلام المستعمرين أو بأقلام باحثين جزائريين. قال في هذا الصدد: “تمّكنا من العثور على شيء قليل، في حينغاب عنا الكثير من الشواهد، توفي الكثير واستشهد الكثير وراحت معهم الكثير من الحقائق”.
من بين هؤلاء الشهود الذين استعان بهم ذكر مرسلة مسعود من الفجوج الذي شارك بالمسيرة وظل 17 سنة بسجون المستعمر، كذلك اعتمد على شهادة أوصيف عمار مناضل بحزب البيان وعاش أحداث 8 ماي، بهلول ابراهيم بن محمد مسؤول بحزب أحباب البيان هو الآخر قدم شهادته حول بشاعة الأعمال الإجرامية بحق شعب أعزل بالإضافة إلى أحمد حامي، مسؤول بحزب “الشعب” الذي تأسس عام 1937 ، مراد التهامي من أعيان قالمة ومناضل في حزب “الشعب”، ناصري قدور مسؤول بأحباب البيان، لخضر حرشاوي من المسيلة عاش بقالمة وألقي القبض عليه من طرف القوات الفرنسية، حيث سجن سنة 45 لغاية جوان 1960، أطلق سراحه ليلتحق بالثورة .
وفي السياق ذاته، أفادنا بن رقطان، بما وثقه، والمتمثل في برقيات أرسلتها المصالح الأمنية ورئيس دائرة قالمة “السفاح أشياري” لديغول في أفريل 1945 والمتعلقة بفروع حزب أحباب البيان والحرية بقالمة، وما تم توجيهه من رسائل احتجاج إلى كل من وزير الداخلية الفرنسي، وعامل العمالة بقسنطينة والحاكم العام بالجزائر والقائد العسكري لمناطق الجنوب ببسكرة على عملية اقتحام مقر أحباب البيان والحرية بأولاد جلال وسيدي خالد التي قامت بها السلطات الفرنسية، حيث ألقي القبض على مسؤولي الفرعين واحتجاجا على الأعمال الإرهابية من طرف القوات العسكرية ضد السكان. واعتبر المستعمر بذلك تمرّدا وعملا استفزازيا وتحدياً لفرنسا.
أشاد بن رقطان بعمل حزب “أحباب البيان والحرية” قائلا، بأنها وُجدت بقوة بعدة فروع عبر مختلف مناطق وضواحي مدينة قالمة، حيث وجدت المناخ المناسب لها بالولاية، وصدى واسعا، مشّكلة 14 فرعا موزعة عبر قالمة المدينة، بومهرة احمد تشمل (فرعان)، بني مزلين، بوعاتي محمود، بن سميح، أولاد حيدر أيضا( فرعان)، أولاد ضاعن بكاف الريح، الفجوج، قلعة بوصبع، طاية سليب بوهمدان، هيليبوليس، وبلخير، هذه الفروع أصبحت تقصد الأسواق الأسبوعية لنشر الدعاية والتعريف بالحزب وما يحمله من مطالب ومبادئ، على حد تعبير الكاتب بن رقطان.
عن سؤالنا فيما يتعلق بمجريات أحداث الثامن ماي، يجيب بن رقطان، قائلا: “قبل الخوض في الحديث عما وقع بالمسيرة من قمع وما تلته من أعمال إجرامية، نعود لما قبل هذا اليوم، حيث جاء في خلاصة التقارير الأسبوعية لمركز الإعلام والدراسات لولاية قسنطينة بتاريخ 4 أفريل 1945، عن الحالة السياسية لمنطقة قالمة بأن الدعاية لصالح “أحباب البيان والحرية” شملت كافة الدواوير التابعة للبلدية المزدوجة بالصافية (المشروحة حاليا) .
بتاريخ 11 أفريل نظم اجتماع بلخزارة من طرف مناضلي قالمة وحضره بعض المحرضين لسكان الصافية ووادي الشارف ( كما وصفهم التقرير).
هذا يدل على قلق السلطات الفرنسية وعلى رأسهم رئيس البلدية “ اشياري “ حول ما تعلق بنشاطات حزب أحباب البيان والحرية عبر الأرياف والقرى والأسواق.
في 12 أفريل أرسلت برقية تبين بأن خلية وادي الزناتي أقدمت على تجمع ضخم بسلاوة عنونة تلاه تجمعا أكبر في كافة الدواوير، كما يقوم مرّوجون للحزب بتوزيع بطاقات الانخراط بالأسواق وفي كافة الدواوير للاشتراك بالحزب، ومعظم سكان وادي الزناتي وحمام دباغ تجاوبوا مع الحزب، مما أثار قلقا كبيرا في أوساط السلطات الفرنسية من النشاط الذي قام به حزب البيان عبر فروعه بقالمة.
شهادة المناضل ابراهم محمد الطاهر
اعتمد برقطان في توثيقه للمجزرة الفظيعة على شهادة المناضل ابراهم محمد الطاهر، المدعو صالح، حيث أكد بأن الأوامر أعطيت من طرف النظام السري للحزب قبل يوم 8 ماي 45، وهذا فور إعلان توقيف الحرب العالمية الثانية والانتصار على ألمانيا. بحسبه الأوامر تمثلت في تحضير اللافتات والشعارات، بما فيها أعلام الحلفاء فرنسا وأمريكا وإنجلترا وروسيا والأهم من هذا كله هو العلم الجزائري ليصاحب علم الحلفاء، حيث قام المكتب بتحضير الشعارات التي تنادي وتطالب باستقلال الجزائر وإطلاق سراح المساجين.
أضاف: “انطلقت المسيرة على الرابعة والنصف بأنشودة من جبالنا طلع صوت الأحرار، ورفع اللافتات مع الشعارات التي تنادي بالحرية والاستقلال، وعند وصول المتظاهرين إلى ساحة 20 أوت تغير النشيد فداء الجزائر روحي ومالي، ليمرّ المتظاهرون بنهج عنونة، متجهين إلى نهج 8 ماي 45 حاليا. وفي هذه الحالة جاءت السلطات الفرنسية بقيادة نائب عامل العمالة “السفاح اشياري” ووقعت محاورة بين المسؤولين الفرنسيين والمسؤولين على المظاهرة وكانت الإجابة أنه سيتم وضع باقات من الزهور في تمثال جوندارك الفرنسية، وقال له أنهم حلفاء فرنسا لتضليل العدو الفرنسي، إلا أن نوايا المتظاهرين عكس ذلك، كي لا تنكشف خطتهم، وكانت المسيرة مصحوبة بأعلام الحلفاء مع لافتات تحيا الجزائر حرة مستقلة، يسقط الاستعمار الغاشم، تحيا الديمقراطية، تسريح المساجين وعلى رأسهم مصالي الحاج.
السلطات الفرنسية طلبت توقيف المظاهرة، حيث نطق فرنسي يدعى فوكو قائلا: إلى نائب عام العمالة، “ هل فرنسا موجودة أم لا ؟ قال له فرنسا موجودة، وهنا أطلق عيارات نارية إيذانا بالهجوم على المتظاهرين، وبدأ الجند ارم الفرنسي الرمي دون تحفظ ، وللأسف سقط بومعزة عبد الله المدعو ( حامد ) شهيدا بطلقات نارية وجهت له من قبل شرطي، وأنه بحق أول شهيد يسقط بالمظاهرة، كما جرح بالرصاص يلس عبد الله وابن يحيى مسعود أصيب بطلقات نارية في كتفه خلال الطلقات الأولى بعد المسيرة، وأصيب العديد من المناضلين، بحسب شهادة المناضل، ابراهم محمد الطاهر، ولم تتوقف هنا وتعدت إلى إطلاق النار على المتظاهرين وتم القبض على العديد منهم.
أبرز ذات المتحدث، العناصر القيادية والمناضلين الوطنيين الذين تم إلقاء القبض عليهم أيام 8 ، 9 و 10 على التوالي وبالتحديد عبدة اسماعيل، عبدة علي، بن صويلح عبد الكريم، ورتسي عبد المجيد المدعو مبروك، ورتسي احمد، بلعزوق اسماعيل، بلعيد محمد الصالح، بن شيخة أحسن، سريدي أحمد المدعو حميدة، شرفي مسعود وتم قتلهم بالثكنة العسكرية باعتبارهم المحرضين والمشاغبين ومن نشر فكرة الحزب. فانتقمت منهم فرنسا بحضور كل السلطات والسيد اشيري، رئيس دائرة قالمة وبعض المواطنين الذين كانوا نوابا بالمجلس البلدي.
تبدأ عملية الملاحقة وإلقاء القبض على الجميع بنقلهم عن طريق شاحنات وجرارات لثلاثة أماكن لإبادتهم، وتمثلت تلك المناطق في المحجرة المتواجدة في أعالي قالمة، جسر بلخير، وكاف البومبة بهيليوبوليس وبعد قتلهم يتم حملهم لفرن الجبس بحمام برادع المتواجد بين “هيليبوليس” وقلعة “بوصبع”، ويتم رشهم بالبنزين وإشعالهم بالنار، والبقايا يتم وضعها بالفرن حتى لا يتركون أثر الجريمة، وهي عملية استمرت أيام لغاية ما جاء الأمر لوقف عملية التقتيل، كون هناك لجنة تحقيق “ تيبار” وجدت حجما كبيرا من الجرائم، فتوقف عملها حتى لا تظهر الحقيقة للرأي العام ولم تظهر تحقيقاتهم.
توجه رجال المباحث يوم التاسع ماي نحو مقر أحباب البيان والحرية وتم تكسيره وأخذ كل الوثائق الموجودة فيه، كما اتجهوا إلى محل بن ابراهم صالح وتم أخذ 10000 بطاقة مخصّصة للمشاركين ومنخرطي حزب البيان بالإضافة إلى ووثائق أخرى . ليتم القبض عليه ونقله بشاحنة برفقة آخرين، ليفر ابراهم بصعوبة من قبضة “ لاصوريطة” وظل 5 أشهر هاربا.
عن ردود الفعل من قبل المواطنين في القرى والأرياف، أمام بشاعة المجازر الرهيبة التي ارتكبها المعمرين والأمن الفرنسي من درك وشرطة والمليشيات، تم قتل 11 معمرا تلتها عدة عمليات إبادة بالطيران والقنابل في القرى والأرياف، حيث اجتمع 850 رب عائلة أوروبية من سكان قالمة ونواحيها وكتبوا برقية تأييد ومساندة لـ أشياري على الأعمال الإجرامية والتي اعتبرت بنظرهم أعمال بطولية”، وأرسلت للجنرال ديغول حتى لا يعاقب اشياري عن أعماله.
في سرده للأحداث، أفادنا بقائمة اسمية تم ضبطها للمسؤولين وبعض المعمرين الذين شاركوا شخصيا في قمع وتعذيب واعدام المناضلين، وشملت 66 اسما، منهم مسؤولون إداريون وأمنيون، وأعضاء في النقابة الفرنسية ومتقاعدون وفيهم أعضاء في البلديات ومستشارون ماليون وفيهم تجار وحرفيون وفلاحون فرنسيون وعمال بسطاء، كلهم شاركوا في إبادة سكان قالمة وقد ضبطت هذه القائمة على ضوء التصريحات التي أدلي بها المناضلون والمواطنون الذين تم استجوابهم بالإضافة إلى الأسماء التي وردت في مختلف الوثائق الرسمية من طرف مديرية الوثائق بولاية قسنطينة.