تأكيد الالتزام بمواصلة مسار البناء الوطني وتجاوز تحديات المرحلة
يلقي اليوم العالمي للشغل بظلاله على الساحة التي تحقق هذا العام مكاسب أخرى تدعم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يكرسها الدستور الجديد في ظرف يتميّز بالصعوبة نتيجة تقلبات سلبية للمؤشرات. ولعل من أبرز ما يتميز به عالم الشغل في الظرف الراهن بروز عنصر الاستقرار التام للساحة العمالية بالرغم من بعض الحراك في عدد من القطاعات، وهو مؤشر يعكس درجة معتبرة لحركية طبيعية في مجتمع يستفيد من مناخ واسع لممارسة الحريات في إطار التعددية وحرية التعبير انسجاما مع مواثيق الدولة يتقدمها الدستور الجديد وتوجهات المجتمع الذي يتطلع إلى تعزيز مكاسب التنمية وفقا لقواعد العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص وتفوق الكفاءة وهو تحد لا ينتهي بل يتجدد باستمرار كونه من صميم معركة التحولات الجارية.
مؤشرات إيجابية رغم صعوبة الظرف
يحلّ عيد الشغل والمؤشرات لا تزال «خضراء» رغم الصعوبات التي تنذر بانعكاسات سلبية في المديين المتوسط والبعيد إذا لم تترجم الخيارات المسطرة ضمن مسار «النموذج الاقتصادي الجديد» المرتكز على المبادرة ببناء أرضية صلبة لاقتصاد إنتاجي ومتنوع تلعب فيه المؤسسة الإنتاجية بكافة أنواعها الدور المتقدم في إنتاج الثروة خارج المحروقات، وهو التحدي الأكبر الذي يمكن رفعه بتظافر الجهود حول ترجمة القرارات إلى أفعال من شأنها أن تقدم الجواب الملموس لمختلف الإشكالات التي تفرزها معركة النمو في ظل الحرص على ديمومة الاستقرار، الذي يعتبر كقاسم مشترك العنصر الجوهري للنمو بوتيرة تخضع للمؤشرات المرتبطة بتداعيات الأزمة البترولية واختلال الأسواق الخارجية، خاصة وأنه (أي الاستقرار في عالم الشغل) يستمد قوته من الديناميكية الاستثمارية والتنموية الشاملة التي دأبت عليها الجزائر منذ أن دخلت مرحلة المصالحة الوطنية وتجاوزت عن طريق إرساء البديل التنموي أزمة التسعينات وتداعياتها التي ألحقت أضرارا اقتصادية واجتماعية كبيرة جدا..
ومن أبرز المؤشرات وضوح الإرادة السياسية للدولة في جعل الجانب الاجتماعي الوجه الآخر لاقتصاد السوق ومن ثمة لا يوجد في قاموس الظرف الراهن وهذا منذ السنوات الأخيرة لمرحلة ما بعد العشرية السوداء مكان لغلق مؤسسات أو خوصصتها ولا لتسريح العمال فهذا أصبح من الماضي على الأقل حاليا، في وقت يشتد فيه الصراع مع عودة شبح لطالما تمكنت البرامج الاستثمارية القوية التي أطلقتها الدولة من إبعاده على الأقل لمرحلة معتبرة، ألا وهو البطالة وما ينجر عنها، وهذا بفضل سنة مليئة بالإنجازات في مجال الاستثمار والشراكة التي تتطلع إلى تعزيز حصيلتها من خلال مشاريع يجري تجسيدها.
وينبغي الإشارة إلى مؤشر آخر يتمثل في التحسين المستمر لأوضاع المتقاعدين الذين تحققت لهم مكاسب غير مسبوقة بفضل العناية التي تكرسها لهم الدولة وبالأخص من جانب رئيس الجمهورية الذي كان من بين أول ما حرص على النهوض به أوضاع المتقاعدين خاصة ذوي الدخل الضعيف من منطلق العدالة الاجتماعية والتضامن من أجيال قدمت الكثير من الجهود في مرحلة البناء والتنمية. كما استفادوا من زيادات منتظمة منذ أكثر من عشريتين بفضل تماسك جوانب الاقتصاد الكلي في انتظار إيجاد حلول مرنة وذكية لإشكالية الاقتصاد الجزئي الذي يتطلب اتخاذ إجراءات في العمق انطلاقا من مرافقة المؤسسة الإنتاجية وتوسيع دائرة الاستثمار المندمج كون الاقتصاد الوطني قابل للتحول نحو مرحلة ناجعة يلعب فيها العمال الدور الفعال.
الحوار الاجتماعي ضمانة للاستقرار
ويمثل الحوار الاجتماعي الذي تعكسه مواقف الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين الثلاثية تتقدمهم المركزية النقابية قيمة إضافية في تعميق مسعى تحسين مناخ العمل الذي يرتبط مباشرة بتحسين معدلات الإنتاج والإنتاجية التي تمثل الحلقة الجوهرية في معادلة النمو، ومن ثمة كسر شوكة البطالة التي تترصد المشهد الاقتصادي في مرحلة تعتبر الأصعب وتقتضي التزام يقظة عمالية عنوانها مضاعفة العمل وإتقانه.
وبالفعل يحتاج المناخ الاجتماعي في عالم الشغل إلى توسيع مساحته باستمرار باعتماد مسار الحوار الاجتماعي ضمن قواعد الشفافية والضوابط التنظيمية من منطلق التزام كافة الأطراف بقواعد العمل من منطلق مفاهيم جديدة تكرس المرونة وتفتح المجال أمام الابتكارات والإبداعات التي يمكن تنميتها في الورشات والمصانع والمخابر، وذلك من خلال الرفع من مستويات المشاركة في رسم التصورات والمساهمة في تحديد الخيارات ذات الصلة بتحولات الأسواق حيث الصراعات الاقتصادية الأقرب إلى «حروب» محتدمة، وهي مأمورية لا يمكن أن تتحقق سوى بالدفع بالكفاءات إلى الواجهة باعتبارها الورقة التي تحسم التنافسية وتضمن الديمومة ومنها ديمومة مناصب الشغل.
وبفضل تكريس مناخ الحوار الاجتماعي الذي لم يتوقف رئيس الدولة عن التأكيد عليه ضمن آليات الثلاثية والأطر القانونية، التقطت المؤسسة الاقتصادية الجزائرية أنفاسها لتمسك بخيوط الاستثمار والشراكة والتركيز على تحسين معدلات الإنتاج تماشيا مع شروط السوق خاصة وأن قرارات شجاعة تمت على غرار اعتماد أفضلية المنتوج المحلي والحد من الاستيراد وتحفيز التصدير وكلها ثمار تحملها شجرة عالم الشغل.
وفي هذا الإطار يكون موعد عيد العمال بمثابة المناسبة المتجددة لتأكيد التزام عالم الشغل بكافة مكوناته وقطاعاته بمواصلة مسار البناء الوطني، كل في موقعه، قناعة بأن المصير واحد بالنسبة للقطاع العام أو الخاص وأن المنافسة الأجنبية لن تعطي فرصة للمؤسسة المحلية إذا ما بقيت جامدة وغير قادرة على الانتقال إلى مستوى النجاعة، ويكون ذلك بإدراجها للعنصر البشري (العامل بمختلف المستويات وكل الأصناف) في مخططاتها التنموية ليس كمجرد أداة إنتاج إنما باعتباره مصدرا لإنشاء الثروة وقوة ابتكار تؤسس للقيمة المضافة ومنه يمكن الحصول على الطاقة اللامادية اللازمة للبقاء في السوق وديمومة النمو.