نجحت الجزائر في الرهان على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، لاجتثاث آثار المأساة الوطنية والقضاء على الإرهاب، فمن قانون الرحمة إلى الوئام المدني إلى المصالحة الوطنية، كلها خطوات كانت قاسية جدا على الكثير من فئات الشعب الجزائري، إلا انه فضّل التريث والسماح للعقل ثم التنازل عن جزء من حقوقه للسماح للسلطات بالوصول إلى المصالحة الوطنية التي كانت جرعة مكنت الجزائر، اليوم، من حصاد التنعم بالسلم والاستقرار الاجتماعي وتجنب منعرج الربيع العربي الذي قضى على الأخضر واليابس.
قطع ميثاق السلم والمصالحة الوطنية سنته العاشرة مؤخرا، ليتأكد حسن اختيار الجزائريين لحل المأساة الوطنية بعد أن تم موافقة أكثر من 98 بالمائة من الجزائريين على خيار المصالحة الوطنية ذات 29 سبتمبر من سنة 2005، حيث هبّ الجزائريون عن بكرة أبيهم لتقديم يد ممدودة للسلم والاستقرار الاجتماعيين، لوعيهم بالتحولات العالمية ويقينهم بأن الحلول الداخلية والإجماع والتوافق الوطني هو الرأي السديد، لأن التدخل الأجنبي واستيراد الحلول التي لا تتوافق مع مبادئنا ومرجعياتنا لن يوصلنا لبر الأمان.
في ظل التحولات العالمية الحالية التي تتميز بكثرة بؤر التوتر وانتشار المد الإرهابي، وتزايد المؤامرات الدولية تحت غطاء الإرهاب لتدمير الدول، اهتدت الجزائر إلى دسترة المصالحة الوطنية ووضعها في ديباجة الدستور الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في مارس الجاري حيث ورد في الديباجة «...غير أن الشعب الجزائري واجه مأساة وطنية حقيقية عرّضت بقاء الوطن للخطر. وبفضل إيمانه وتمسكه الثابت بوحدته، قرّر بكل سيادة تنفيذ سياسة السلم والمصالحة الوطنية التي أعطت ثمارها وهو مصمم على الحفاظ عليها.
إن الشعب يعتزم على جعل الجزائر في منأى عن الفتنة والعنف وعن كل تطرف، من خلال ترسيخ قيمه الروحية والحضارية التي تدعو إلى الحوار والمصالحة والأخوة، في ظل احترام الدستور وقوانين الجمهورية.»
ويعكس وضع المصالحة الوطنية في أم القوانين رغبة السلطات في الاستمرار في هذه السياسة لاجتثاث الإرهاب من جذوره وقطع الطريق أمام كل الذين يحاولون النفخ في رماد العشرية السوداء خاصة بعد الترويج للتنظيم الإرهابي «داعش» الذي فشلت كل محاولات إدخاله للجزائر بفضل يقظة الجيش الوطني الشعبي والأسلاك الأمنية ووعي الشعب الجزائري بأخطار ومكائد الغرب الذي يحاول التخفي وراء الإرهاب لتدمير الدول الوطنية وجرها نحو الفوضى.
إجراءات أخرى لفائدة ضحايا المأساة الوطنية
عبّر رئيس اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان فاروق قسنطيني، عن تفاؤله باتخاذ رئيس الجمهورية إجراءات جديدة في سياق الصلاحيات التي منحها له مرسوم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي صدر في فيفري 2006، موضحا بأن هناك الكثير من الفئات التي يجب أن يشملها الميثاق خاصة الذين خسروا ممتلكاتهم أو تعرضوا للاعتقال تعسفا دون محاكمة أو ما يعرفون بمعتقلي الصحراء وفئات أخرى.
وقال قسنطيني في حديث لـ «الشعب» عن النتائج الباهرة التي حققتها المصالحة الوطنية خاصة استتباب الأمن والسلم وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، حيث مكنت من عودة آلاف المغرر بهم إلى أحضان المجتمع، مضيفا «أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أكد في الكثير من المرات أن باب التوبة مفتوحا للمغرّر بهم» .
وأضاف قسنطيني إن المصالحة الوطنية كانت ناجحة لأنها كانت جزائرية خالصة، وفقا لمراحل عديدة، حيث بدأها الرئيس السابق اليامين زروال بقانون الرحمة، ثم تواصلت بالوئام والمصالحة مع رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، حيث كانت هذه المبادرات من داخل الجزائر ولهذا كانت ايجابية.
ثمّن قسنطيني مجهودات المؤسسة العسكرية في الحفاظ على السلم والاستقرار، حيث أثبتت قدرتها على التصدي لكل محاولات النيل من استقرار الجزائر، كما أن إرفاق الخطط الأمنية ببرامج تنموية وإستراتيجية مكنت الجزائر من تجاوز منعرج العشرية الدموية بسلام.
وأشار قسنطيني إلى التطورات الخطيرة التي يشهدها العالم حيث أخذ المد الإرهابي أبعادا يصعب التحكم فيها، والجزائر كانت محقة بالإسراع في طي الأزمة حيث أظهر الوقت بأننا لا نستطيع أن نندم على خيار المصالحة الوطنية.
ويذكر أن التقرير النهائي لخلية المساعدة القضائية الذي تم تسليمه لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة الذكرى العاشرة لاستفتاء المصالحة الوطنية، تضمن تطبيق 95 بالمائة مما جاء به الميثاق حيث لم يتبق سوى عشرات الملفات الخاصة بالمفقودين منهم، 24 أسرة رفضت التعويض من جملة حوالي 7000 ملف تم معالجته.
جعل المصالحة سلوكًا يوميًا
دعا الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين، إلى جعل المصالحة الوطنية سلوكا يوميا وليس مناسباتيا من خلال ترسيخ التصالح مع النفس ومع الآخر في كل لحظة حتى ننزع العداوة بيننا وننتقل من الشعور بالعداوة بيننا إلى الشعور بالاختلاف مع الآخروتقبله والتعايش معه.
أثنى الشيخ على ما قدمته المصالحة الوطنية من خدمات كبيرة للوطن من خلال القضاء على العنف واسترجاع السكينة والأمن الذي يعتبران من أهم النتائج المتوصل إليها.
واعتبر نفس المصدر في حديث لـ «الشعب» ضرورة توسيع المصالحة الوطنية لفئات أخرى أمر مهم للغاية للقضاء على كل القلاقل وفتح المجال للأعداء للنفخ في مسببات المأساة الوطنية فمثلا هناك أفراد بالخارج يجب التقرب منهم وضمهم للمصالحة الوطنية حتى لا نترك أي فراغ قد يتسبب لنا في مشاكل مستقبلا.
نصح الشيخ بضرورة تجنّب العنف في المعاملات اليومية وخاصة على المستوى السياسي الذي بات مساحة للتنابز والشتم والسب وهو ما يجعل من العنف ظاهرة يومية في حياة الجزائريين فتقبل الآخر والاحترام والاختلاف في الرأي يجب أن يتم في مشهد هادئ، وأشار بالمقابل إلى أهمية أخذ العبرة مما يجري حولنا فاستمرار العنف في مختلف مناحي الحياة قد تكون له عواقب وخيمة.
وبالمقابل وجه الشيخ عبد الرزاق قسوم نصيحة لمختلف وسائل الإعلام الوطنية التي تأول الكثير من التصريحات والمواقف التي كانت الجمعية ضحية فيها.
كما دعا الى احترام الدعوة احترام الدين الإسلامي والأخذ به في تلك الملفات مع إبداء الرأي حول أفكار وليس ضد أشخاص.
تأسف على من وصف الجمعية بالراديكالية وبالمحافظين وغيرها من الألفاظ التي لا تتناسب وتوجهات الجمعية التي تبقى ملكا لكل الجزائريين دون استثناء وهي مستعدة دائما للعمل من أجل الصالح العام وتبقى أبوابها مفتوحة للجميع.
ختم الشيخ عبد القادر قسوم حديثه بضرورة انخراط الجميع في مسعى المصالحة الوطنية وخاصة الشباب الذي يجب أن يحظى بالرعاية والعناية اللازمتين حتى نتفادى ذهابه للبحار والجبال والغابات لامتطاء موجة الإرهاب وقوارب الهجرة غير الشرعية وإدماجه في مختلف مناحي الحياة وعدم تهميشه وإقصائه لتفادي ما يحدث حاليا في عديد الدول العربية.
المصالحة الاقتصادية لاستكمال المسعى
يرى الخبير الاقتصادي، فارس مسدور، أن مصالحة وطنية اقتصادية من شأنها أن تعزّز مكاسب المصالحة الوطنية السياسية التي عرفتها الجزائر منذ 10 سنوات، موضحا في حديث لـ «الشعب» أن متابعة الشأن الجزائري قد أثبت بأن السوق الموازي والتهريب أكبر مهدّدين للأمن والاستقرار ومصالح الجزائر وبالتالي فهي لا تقل خطورة عن الإرهاب المسلح مثمنا الخطوات العملاقة التي قطعها الجيش الوطني الشعبي في مكافحة التهريب حيث تعكس التقارير المنقولة عبر وسائل الإعلام عن تمكن عناصر الجيش الوطني الشعبي من إحباط آلاف محاولات إغراق الجزائر بالسلاح والمخدرات في سياق خلق الفوضى الخلاقة وإفشال كل محاولات خلق وضع فوضوي يحافظ على مصالح المافيا وبارونات التهريب ومقاومة كل محاولة السلطات ترسيم مختلف النشاطات الاقتصادية.
حذر مسدور من الأخطار القادمة من الحدود الغربية، حيث تشير الإحصائيات إلى إنتاج المغرب أكثر من 70 مليار دولار من المخدرات مستهدفا الجزائر لتصديرها والترويج لها ولا يخفى على أحد العلاقة التي ظهرت بين تجار المخدرات والسلاح والجماعات الدموية، الأمر الذي تفطنت له الجزائر وجعلتها تتخذ الاحتياطات لوقاية نفسها من السموم.
قال مسدور أن الجزائر التي استثمرت كثيرا في وقت كانت فيه أسعار المحروقات مرتفعة، حيث وصلت إلى تأسيس أكثر من 900 ألف مؤسسة صغيرة ومتوسطة يجب الاعتماد عليها لتقوية الصادرات خارج المحروقات والتقليل من التبعية للطاقة.
يتخوف ذات الخبير في حديث خصّ به «الشعب» من أن تذهب الاستثمارات الضخمة في مهّب الرياح إذا ما استمر توّغل السوق الموازي الذي تدور فيه أكثر من 3700 مليار دج، كما أن سوق العملة تضم أكثر من 14 مليار دولار تستحوذ عليها بارونات ومافيا دولية، حيث كانت العملية الأمنية التي ضربت سوق السكوار رسالة مهمة على أن الجزائر ملمة بما يحدث في هذه السوق التي يجب أن ترّسم بكل الطرق.
وفي سياق تجسيد المصالحة الاقتصادية، وجّه مسدور رسالة لكل الناشطين في السوق الموازي لترسيم نشاطهم وإدخال أموالهم للبنوك لتعزيز الأمن والاستقرار الوطني، لأن بقاء الأموال بدون مراقبة سيرفع من مستوى المخاطر على أمن الجزائر.
قدّر الخبير خسائر الخزينة العمومية سنويا من التهرب الضريبي بـ 200 مليار دينار وهو الرقم الذي يجب أن نضربه في عشرات السنوات الماضية حيث كان الاقتصاد الوطني يخسر مئات الملايير من الدولارات وفي ظل ما يحدث لا يجب أن يتواصل الأمر على ما هو عليه.
واعتبر المحفزات الضريبية على أموال السوق الموازي أمرا لا مفر منه، حيث دعا إلى تخصيص ضرائب منخفضة على الذين يسرعون في تسوية وضعيتهم قبل ستة أشهر ورفعها على الذين يتأخرون لسنة وهكذا حتى نضمن دخول أكثر قدر من الأموال للبنوك، و تسهيل عملية مراقبة الأموال لتضييق الخناق على جماعات التمويل اللوجيستي ووقف عمليات التهريب وتبييض أموال المخدرات وتجارة السلاح.
قال بالمقابل بأن استتباب الأمن بفضل المصالحة من شأنها تحسين مناخ الأعمال وتبديد مخاوف الشركات العالمية من المجيء للاستثمار في الجزائر.