نحن لا نعرّف بثقافتنا ...والشأن الثقافي آخر العربة في القطار
مالك حداد لا يقل شأنا عن آراغون لكن لم يوصل أحد صوته
الشاعر يولد كل لحظة والحداثة رهينة بناء الذات
كان لقاءً مميّزا ذلك الذي احتضنته المكتبة الوطنية، في شكل نقاش فكري مع الشاعر والأكاديمي عمر أزراج، وذلك في إطار فعاليات فضاء «موعد مع الشِّعر»، الذي ينظّمه الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة، وترعاه وزارة الثقافة. وتطرّق أزراج في هذا اللقاء إلى إشكالية المشروع الشعري عند الشاعر الجزائري، وذلك من خلال عدة محاور من بينها: الشاعر واللغة، الشاعر والايدولوجيا، الشاعر والحداثة. كما اعتبر أن التشظي وغياب النقد والابتعاد عن العمل الفكري عوامل تحول دون وجود مشروع شعري.
هل يملك الشاعر الجزائري مشروعا شِعريا؟ هو السؤال الرئيسي الذي طرحته الشاعرة لميس سعيدي المشرفة على فضاء «موعد مع الشعر» على الشاعر عمر أزراج، الذي بدأ حديثه بدقيقة صمت ترحما على أرواح الكتاب الجزائريين، قبل أن يطرح مجموعة من الأسئلة: ما معنى المشروع الشعري؟ وما هي الحداثة؟ وما هي علاقة الشعر بالفكر والفلسفة؟
غياب البناء الفردي للذات
واعتبر أزراج بأن الشاعر يتأرجح دائما وليس له استقرار، «الشاعر شخصية مفردة وفردية بامتياز، لا يشترك مع آخر في رؤية أو تجربة شعرية، قد يحدث تجاوب بين شاعرين لا أكثر»، يقول، مضيفا بأن الشاعر يراوح بين الخاص والعام دون أن يقصد ذلك.
كما طرح مسألة أنا الشاعر بأنا الآخرين.. ورأى أن القصيدة الشعرية هي القصدية المشتقة من الحوار مع العالم.. وفي حديثه عن الحداثة قال: «إن الذات الفردية في الثقافة العربية لم تولد بعد، فكيف نتحدث عن الحداثة دون أن يكون هناك إنسان حديث؟ لذا أنا لا أتفق مع أركون وأدونيس في هذه النقطة».
واستشهد بإيمانويل كانط، الذي يعتبر أن الفرد يولد عندما لا تفكر له الكنيسة والجماعة ووصايا الديانات الأخرى والإيديولوجيا، الشخص الحديث يولد عندما يفكر لنفسه بنفسه.
وأضاف أزراج بأن الإنسان العربي ليس له ذاتية والفرد عندنا يولد وهو متشبع بفكرة القبيلة والعشيرة والطائفة. لذا فمشكل الحداثة في الثقافة العربية ميلاد الفرد هو الأساس التاريخي والدافع الحيوي لبناء الذاتية، وإذا أردنا الحديث عن المشروع الشعري الجزائري والعربي نقول إنه مشروع شاعر له ذات: «من الصعب جدا أن يولد الشاعر ويخترق هذه الطابوهات من أجل بناء الذات».
وبالعودة إلى مراحل الطفولة، يروي أزراج كيف أن الإرث الثقافي الفرنسي كان ثقيلا، والشعر بالفرنسية كان موجها للنخبة و»لم يكن بإمكاننا الوصول إليه ونحن صغار، والشعر الأمازيغي كنا نتغنى به وكان شعرا مقاوما، على غرار أشعار سي محند أومحند.. لذا فعندما بدأنا كتابة الشعر كنا قد انطلقنا من الصفر.. كتابتنا لم تكن بذخا وإنما كانت بمثابة مقاومة ما تبقى من التراث الكولونيالي الفرنسي».
نحن مواليد جدد
واعتبر بأن الجزائر لا تملك مدارس أدبية على غرار المشرق العربي، كما أن الشاعر الجزائري إذ يكتب بالعربية فهو ليثبت ذاته وهو فعل مقاومة، مشروع إعلان ميلاد الذات الجزائرية المقاومة لبقايا الاستعمار.
«الجزائري لا يؤثر في المشرق العربي لأنه يوجد حدود وإقصاء، نادرا ما تجد كتابا جزائريا في المكتبات هناك، والمشرق يعاملنا مثل الاستعمار، كما يجب أن نلوم أنفسنا لأننا ليس لدينا استراتيجية ثقافية للحضور في الخارج، ولا حتى في تونس أو فرنسا»، يقول أزراج، مشيرا إلى ثقافات هي نتاج استقرار وتواجد لآلاف السنين، بينما «نحن مواليد جدد، والمشكل أيضا هو أن الشأن الثقافي هو آخر عربة في القطار»، ويضيف عمر أزراج: «المؤسسات الثقافية في الجزائر بما في ذلك وزارة الثقافة ليس لديها أي خطة لبلورة العلاقة بيننا وبين الآخر».
وذكر ضيف «موعد مع الشعر» أنه ترجم مرة بعض أشعار سي محند أو محند للراحل سميح القاسم، فاندهش هذا الأخير ووصفه بأنه شاعر عالمي، وكان أن سأل القاسم أزراج: «لماذا لم نسمع به من قبل؟».. وفي ذات السياق، أكد أزراج بأن مالك حداد مثلا لا يقلّ على آراغون، ولكنه يبقى معتقلا في الظلمات ولم يوصل صوته أحد، وتساءل عن الدور الذي يفترض أن يضطلع به اتحاد الكتاب، الذي تحول «إلى ملجأ وساحة للمواعيد الصغيرة»، في الوقت الذي «صار العالم قريبا جدا، ولا يجب أن نفكر بعقلية «الدوّار».
وخلص إلى أنه «هناك نوع من التشظي، ولا محبّة مترجمة عمليا بين الأدباء الجزائريين، لذا لا يمكن أن نملك مشروعا، حتى مالك بن نبي، لولا لبناني لضاعت أعماله».
إشكالية المعنى
يقول أزراج إن مسألة الحقيقة في الشعر قد طرحت في أثينا عهد أفلاطون وسقراط وأرسطو، حيث تساءل الفلاسفة «من يقول الحقيقة، اللغة التي نكتبها أو الكلام المتلفظ به؟».
وفي هذا الشأن يقول أفلاطون إننا نكتب عن الشيء حينما ينتهي ويخرج من أيدينا. ويطرح قضية الكلام الذي هو يقبض على اللحظة وهي ساخنة.
أما جاك دريدا فيسمّي هذه المسألة «ميتافيزيقا الحضور والتمركز الصوتي».. وخلص أزراج إلى أننا عندما نريد مناقشة المسألة فلسفيا حتى الذي يصف الحدث شفهيا فإنه ينتقي بعض الزوايا من الحدث، ولا يمكن أن يكون محايدا.
وبالعودة إلى مقولة هايدغر «اللغة بيت الوجود»، يتساءل أزراح: «وما معنى الوجود؟»، ويجيب بأنه القيم والحياة، وهنا ننظر إلى اللغة بشكل آخر، إذ «عندما أقول أحبك فإنك لن تعرف حتى أقوله لك أو أمارس لغة الجسد». وعلى أية حال، فإن «أغلب الشعراء الكبار أفنوا عمرهم في إيجاد معادلة لغوية لنقل الواقع»، يقول أزراج.
ويتحدث عن ثنائية «القصدية» و»اللغة»، ويتساءل: ما هو الأسبق: القصدية أو اللغة؟ هل اللغة تسبقنا إلى العالم الخارجي أو مقاصدنا؟ ويجيب أيضا بأن الوعي دائما يقصد العالم الخارجي.. وهنا تطرق إلى التداولية، وأشار إلى جون اوستن الذي وصفه بـ»الأوكسفوردي التحليلي المتفتح على المجتمع»، والذي بحث وأقام مشروعه التداولي على إشكالية «كيفية تحديد المعنى، وكيفية إيصال المعنى الذي نريده».
وكمثال على التداولية وإشكالية إيصال المعنى، يقول أزراج: «قد نردد جملة «إنها تمطر» فيقول لي أحدهم «إنها لا تمطر»، فأجيب أنني أردد الجملة لأحفظها وليس لنقل الواقع».
لذا فإن الشاعر يجب عليه أن ينطلق من مواقفه ومقاصده ليغير العالم، في حين إن استعمل أفعال الوعديات وتصير أخلاقية الوعد هو ما يحكم وليس أنت.
الشعر الجزائري يفتقر لنقاد بارزين
وأكد عمر أزراج على افتقار الشعر الجزائري لنقاد بارزين، معتبرا أن «اللغة كأداة لكشف العالم غير موجودة لدينا».. «نحن نملك أصحاب آراء يعبرون عن آرائهم وليس مفكرين نقادا يربّون العلاقة مع الواقع، ثم أصلا لا يوجد واقع وإنما أجزاء من الواقع». ويبرّر أزراج موقفه من ضبابية رؤيتنا لما يسمى الواقع: «هل أعرف كل دقائق الحدث والانفعالات الحاصلة فيه؟ أنا أختار فقط زاوية من الحدث وأنقلها.. كيف يمكن للغة أن تنتقل إلى التفاصيل».
ودائما في سياق حديثه عن الشعر الجزائري، يرى أزراج بأنه هنالك بعض الأصوات الشعرية ولكن ظروف الشخصية وظروف النشر والمعاملة تحدّ من إطلاق هذه المواهب وانفجارها، ومساعدتها على المضي قدما.. وهنالك أيضا المقاربة النفسية للشاعر الجزائري خصوصا والعربي عموما: «لو ندرس مشكلات الشعر الجزائري من منظور التحليل النفسي نجد بأن الكثير منها يحل بقرار سياسي.. عندما يدرك الشاعر أو الأديب التناقضات في داخله فهذه هي الخطوة الأولى لتجاوز هذه التناقضات»، مؤكدا بأن «هنالك مشاكل نفسية يجب أن نحلها وإلا سنصير جميعا ذهانيين».
وعن الإبداع الشعري، قال أزراج إن الشاعر يولد كل لحظة، وكذلك القصيدة والفكر.. مؤكدا على أهمية اللغة في اكتساب المعرفة، ويعود الفضل في ذلك إلى ما يسميه شومسكي وقبله كانط «جهازا داخليا غير مرئي يولد مع الطفل ويمكنه من اكتساب المعرفة». أما عن علاقة الشعر بالفكر، فيستشهد أزراج بقول إليوت إن «الشعر يحوّل الفكر إلى عاطفة»، وهي رسالة الشاعر حسبه.
وعن سؤالنا حول علاقة المبدع عموما والشاعر خصوصا بالسياسة، خاصة مع تأكيد مفكري المدرسة النقدية أو مدرسة فرانكفورت على أهمية التداولية، متأسّين في ذلك بأعمال كانط وروسو، وعلاقة التداولية واللغة بالبناء السياسي، أو ما يميه هابرماس بفعل التواصل، قال أزراج إن أهم إشكال يقع فيه الشاعر هنا هو التحكم في مفاهيم على رأسها الإيديولوجيا، وأنه سيكون سعيدا لو كان لدينا شعراء إيديولوجيون، ولكن ما يحدث هو وجود شعراء «الشعار السياسي»، لا أكثر، وهؤلاء يحظون بالاهتمام الإعلامي ولكنهم لا يقدمون مادة شعرية يمكن أن نصفها بأنها سياسية.
يذكر أن عمر أزراج كاتب وشاعر جزائري، يشتغل بقضايا الفكر والنقد والثقافة والهوية، كما أنه كاتب مقالات في عدد من الصحف اليومية وله صيت في الساحة الأدبية والثقافية داخل الجزائر وخارجها. مقيم بلندن منذ ثمانينيات القرن الماضي. من مجموعاته الشعرية: «وحرسني الظل» من منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر عام 1975، «الجميلة تقتل الوحش»، عن نفس الشركة عام 1978، «العودة الى تيزي راشد» عن مطبعة لافوميك بالجزائر عام 1984، «الحضور» كتاب مقالات عام 1977، «أحاديث في الفكر والأدب» الصادر عن دار النشر «الأمل» لعام 2007، وقد ضم عددا من الأحاديث في الفكر والأدب والسياسة، «منازل من خزف» عن منشورات رياض الريس ببريطانيا عام 1995، وهو عبارة عن دراسات في السياسات الثقافية الجزائرية، «الطريق إلى آث مليكش وقصائد أخرى» عن دار بيسان ببيروت عام 2005. ترجمت نصوصه إلى عدة لغات منها الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والفارسية، كما نال عدة جوائز منها جائزة «اللوتس» الأفرو آسيوية للأدب عام 1994 التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.
ويعدّ هذا اللقاء فاتحة برنامج «موعد مع الشعر» لشهر أفريل الجاري، الذي ينتظر أن يشهد في نهايته استضافة الشاعر اللبناني بول شاوول.