غير أن إدراك المجتمع الدولي لخطورة الإرهاب جاء متأخرا، حيث تسببت الأحداث التي شملت مترو باريس، الهجمات ضد السفارة الأمريكية في نيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا)، ثم أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، في تيقن المجتمع الدولي بأن الإرهاب يعد أخطر الجرائم الدولية التي يمكن أن تهز استقرار الدول وتهدد حياة الإنسان، بل تعد الجرائم الإرهابية في وقتنا الحالي من بين التحديات الجديدة التي تجابه السلام والأمن الدوليين.
ومع ذلك، فإن ما يميز جهود المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب هو خلو أغلب التشريعات، بل وحتى الاتفاقيات والقرارات الدولية المتبناة من وضع مفهوم للإرهاب الداخلي منه أو الدولي، حيث اقتصرت على تعداد الأفعال المعتبرة بمثابة جرائم إرهابية إذا ارتكبت وفقا لشروط معينة وفي ظروف محددة، ولعل ما يبرر هذا الموقف، هو عدم وجود اتفاق على هذا المفهوم بين الدول لاختلاف مصالحها السياسية والإستراتيجية، ومحاولة كل منها فرض موقفها على باق الدول الأخرى بما يخدم مصالحها من جهة، ومن جهة أخرى التطور المستمر الذي يعرفه الإرهاب سواء من حيث الغايات أو الوسائل، حيث تم الانتقال من الإرهاب التقليدي إلى الإرهاب العصري الذي أصبح يضم عدة أنواع منها الإرهاب البيولوجي، الإرهاب النووي والإرهاب الالكتروني.
كما أن اهتمام المجتمع الدولي على المستويين الدولي والداخلي كان ينحصر فقط على تجريم الإرهاب الدولي، ولم يتم التركيز على موضوع تمويل الإرهاب ومكافحته عن طريق تدمير اقتصاد الجماعات الإرهابية، وتجريم من يساعدها ومصادرة وتجميد أموالها، إلا حديثا لاسيما بعد دخول المعاهدة الدولية لقمع تمويل الإرهاب حيز النفاذ، والتي ألزمت الدول الأطراف بتجريم تمويل الإرهاب وعمليات تبييض الأموال، إضافة إلى صدور قرار مجلس الأمن رقم 1373 في 28 سبتمبر 2001 والذي ألزم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتجريم تمويل الإرهاب وعمليات غسيل الأموال.
تعد الجزائر من بين الدول الرائدة في مكافحة الإرهاب بمختلف صوره، وذلك باعتراف جهوي ودولي، كما تعد السياسة الجزائرية من أنجع السياسات التي نجحت في محاربة الظاهرة الإرهابية بمختلف أشكالها وصورها، لذا تعتبر الجزائر من بين الدول الرائدة في مجال محاربة الإرهاب بكل أشكاله وذلك بالنظر إلى الأزمة التي عاشتها البلاد خلال العشرية السوداء بسبب هذه الظاهرة الإجرامية، مما دفعها إلى إصدار ترسانة هامة من القوانين بغية مكافحة الإرهاب، كما أولت الجزائر اهتماما كبيرا للتعاون الدولي على مختلف المستويات لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة.
أولا: الاستراتيجية المتخذة على المستوى الوطني
عانت الجزائر فراغا قانونيا كبيرا فيما يتعلق بمحاربة الظاهرة الإرهابية، غير أن الأحداث المأساوية التي عرفتها الجزائر في بداية التسعينيات دفعت بالمشرع الجزائري إلى إتباع استراتيجية وطنية محددة المعالم للقضاء على الظاهرة الإرهابية بمختلف أشكالها، حيث يمكن تقسيم هذه الاستراتيجية إلى ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى، تبنى من خلالها المشرع الجزائري آليات تشريعية استثنائية ومختلفة لمواجهة الإرهاب، حيث تم الإعلان عن حالة الحصار في الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي رقم 91/ 196 بتاريخ 4 جوان 1991، وذلك بهدف الحفاظ على الأمن وتأمين السير الحسن للمصالح العمومية، وقد استمرت هذه الحالة إلى غاية صدور القانون 91/ 23 المؤرخ في 06 ديسمبر 1991 المتعلق بمساهمة الجيش الوطني الشعبي في حماية الأمن العمومي في الحالات الاستثنائية.
كما قام المشرع الجزائري بإعلان حالة الطوارئ بموجب المرسوم الرئاسي رقم 92/ 44 المؤرخ في 09 فيفري 1992، وذلك بهدف استتباب النظام العام وتعزيز أمن الأشخاص والحفاظ على الممتلكات، وتأمين السير الحسن للمصالح العمومية (المادة الثانية)، لكن المشرع الجزائري قام بإلغاء حالة الطوارئ بتاريخ 23 فيفري 2011.
هذا، وقد أصدر المشرع الجزائري أيضا تشريعات زجرية وردعية لمواجهة الظاهرة الإرهابية كانت بدايتها إصدار المرسوم التشريعي رقم 92/ 03 المؤرخ في 30 سبتمبر 1992 والمتعلق بمكافحة الإرهاب والتخريب، حيث يعتبر أول تشريع جزائري يحاول تحديد مفهوم الجريمة الإرهابية ويجرمها، كما تضمن 42 مادة موزعة على أربع فصول، وقد جاء في المادة الأولى منه أنه «يعتبر عملا تخريبيا أو إرهابيا كل مخالفة تستهدف أمن الدولة والسلامة الترابية، واستقرار المؤسسات وسيرها العادي عن طريق أي عمل غرضه الآتي:
- بث الرعب في أوساط السكان وخلق جو من انعدام الأمن من خلال الاعتداء على حياة وسلامة الأشخاص.
- عرقلة حركة المرور أو حرية التنقل في الطرق والساحات العامة.
- الاعتداء على المحيط وعلى وسائل المواصلات والتنقل والممتلكات الحكومية والخاصة والاستحواذ عليها واحتلالها دون مسوغ قانوني، وتدنيس القبور أو الاعتداء على رموز الجمهورية.
-عرقلة عمل السلطات العمومية أو حرية ممارسة العبادة والحريات العامة وسير المؤسسات المساعدة للمرفق العام.
- عرقلة سير المؤسسات العمومية والاعتداء على حياة أعوانها أو ممتلكاتها أو عرقلة تطبيق القوانين والتنظيمات»، إلا أن ما يمكن ملاحظته حول هذه المادة هو تعداد المشرع الجزائري للأفعال التي تشكل جرائم إرهابية دون أن يضع أي تحديد دقيق لمفهوم الإرهاب.
غير أن المشرع الجزائري قام بتعديل المرسوم رقم 92/03 فيما بعد؛ وذلك بموجب المرسوم التشريعي رقم 93/ 05 المؤرخ في 19 أفريل 1993، حيث قام المشرع بتوسيع نطاق التجريم ليشمل كل من يشجع أو يمول الأعمال الإرهابية بأية وسيلة كانت، ليتضمن بذلك هذا المرسوم أول إشارة إلى جريمة تمويل الإرهاب.
كما قام المشرع الجزائري بإعادة صياغة النصوص المتعلقة بجرائم الإرهاب أو التخريب في قانون العقوبات، وذلك من خلال القسم الرابع مكرر تحت عنوان (الجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية)، المواد من 87 مكرر إلى غاية المادة 87 مكرر 10، وهذا إثر التعديل الذي لحق قانون العقوبات بموجب الأمر رقم 95/ 11 المؤرخ في 25 فبراير 1995.
لذلك تعتبر المادة 87 مكرر الإطار القانوني لتجريم ظاهرة الإرهاب والتخريب في الجزائر؛ وذلك بنصها على أنه (يعتبر فعلا إرهابيا أو تخريبيا في مفهوم هذا الأمر، كل فعل يستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية واستقرار المؤسسات وسيرها العادي)، بينما تضمنت المواد الأخرى العقوبات المقررة لمرتكبي جرائم الإرهاب والتخريب؛ غير أن المشرع الجزائري أبقى على نفس الأفعال التي عددها المرسوم 92/ 03، والتي كيفها على أنها أعمال إرهابية وتخريبية دون أن يعطي تعريفا دقيقا لجريمة الإرهاب.
كما قام المشرع الجزائري بتعديل قانون الإجراءات الجزائية بغية توسيع سلطات الشرطة القضائية في مجال مكافحة الجرائم الإرهابية، حيث مدد اختصاصهم إلى كامل الإقليم الوطني فيما يخص بحث ومعاينة جرائم المخدرات والجريمة المنظمة عبر الوطنية وجرائم تبييض الأموال والإرهاب، مع ضرورة إعلام وكيل الجمهورية المختص إقليميا بذلك في جميع الحالات (المادة 16 من قانون الإجراءات الجزائية)، زيادة على السلطات الواسعة المخولة لهم فيما يتعلق بتفتيش المساكن طبقا للمادة 45.
وفي السياق ذاته، فقد وسَّع المشرع الجزائري من الاختصاصات المخولة لقاضي التحقيق، حيث أجاز تمديد الاختصاص المحلي لقاضي التحقيق إلى دائرة اختصاص المحاكم الأخرى، عن طريق التنظيم في جرائم المخدرات والجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية والجرائم الماسة بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات وجرائم تبييض الأموال والإرهاب والجرائم المتعلقة بالتشريع الخاص بالصرف، وذلك طبقا للمادة 40 من قانون الإجراءات الجزائية، وكذلك سلطة قاضي التحقيق في تمديد مهلة الحبس المؤقت عندما يتعلق الأمر بجنايات موصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية، طبقا للمادة 125 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية.
كما منح المشرع الجزائري بموجب المادة 249/ 2 من قانون الإجراءات الجزائية لمحكمة الجنايات بمختلف المجالس القضائية الموجودة بالتراب الوطني اختصاص الفصل في قضايا الجرائم الإرهابية والتخريبية وذلك بعد الإحالة إليها بموجب قرار نهائي من غرفة الاتهام، علما أن هذا الاختصاص كان ينعقد للمجالس القضائية الثلاث الموجودة في كل من الجزائر، قسنطينة ووهران.
-المرحلة الثانية، فقد قام المشرع الجزائري من خلالها باللجوء إلى تبني تشريعات تشجيعية لمكافحة الإرهاب بسبب عجز مختلف القوانين الزجرية عن الحد من تزايد الجرائم الإرهابية، حيث قام المشرع في البداية بإصدار قانون الرحمة الصادر بموجب الأمر الرئاسي رقم 95/ 12 الصادر بتاريخ 25 فيفري 1995، ثم قانون الوئام المدني الصادر بموجب القانون رقم 89/03 المؤرخ في 13 جويلية 1999، وأخيرا ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الصادر بموجب الأمر رقم 06/01 بتاريخ 14 أوت 2005.
ـ المرحلة الثالثة، تمثلت في سن المشرع الجزائري قانونا خاصا بمكافحة تمويل الإرهاب هو القانون رقم 05/01 المؤرخ في 06 فيفري 2005 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، يتكون هذا القانون من 36 مادة مقسمة على 06 فصول يتضمن الفصل الأول (م 01 إلى 05) أحكاما عامة تتعلق بمفهوم جريمة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، حيث عرف المشرع الجزائري تمويل الإرهاب بموجب المادة الثالثة بأنه «تعتبر جريمة تمويل الإرهاب، في مفهوم هذا القانون، كل فعل يقوم به كل شخص بأية وسيلة كانت، مباشرة أو غير مباشرة، وبشكل غير مشروع وبإرادة الفاعل، من خلال تقديم أو جمع الأموال بنية باستخدامها كليا أو جزئيا، من أجل ارتكاب الجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية، المنصوص والمعاقب عليها في بالمواد من 87 مكرر إلى 87 مكرر 10 من قانون العقوبات».
بينما نص المشرع الجزائري في الفصل الثاني (م 06 إلى 14) من هذا القانون على الأحكام المتعلقة بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. أما الفصل الثالث من هذا القانون فقد خصص لاستكشاف هذه الجرائم (م 15 إلى 24)، ليضع الفصل الرابع الأحكام الخاصة بالتعاون الدولي لمحاربة هذه الطائفة من الجرائم (م 24 إلى 30)، بينما تم النص على العفويات المقررة على مرتكبي جرائم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في الفصل الخامس (م 31 إلى 34)، ليختم هذا القانون بفصل سادس خصص للأحكام الختامية المتعلقة به (م 35 و 36).
يتبع