حمل الجرح ورحل، والجرح فينا ما رحل...
كما تلك الأيقونة التي نراها من بعيد تتلألأ كان صالح زايد، يطل نورا على كل الذين أحبوا قلمه، واستمسكوا بحروفه التي كان ينسج خيوطها بدم القلب، ويدبجها بعنفوان ذاته الطالعة من تلك المدينة المرابضة بين الجبل والبحر.. المدينة التي أنجبت زيغود يوسف وصنعت ملحمة عشرين أوت، ورغم سنوات الاحتلال وبطش عساكره ظل جمالها جمالا وظل صالح زايد يحملها في ذاته حيثما رحل.. يتنفس موج البحر.. يهدي للسمكات حبه الأبدي ويهب سطورة كل أنفاسه.
كم من جرح حمل قلبه وما انكسر كما صخور سطورة ظل صامدا.. من هجران أب ماعرف شكل وجهه ولاتدثر بلمسة حنانه وما لثمت شفتاه خده إلى يتم الأم التي رحلت وتركته طفلا بين إخوته الخمسة فكان عليه أن يصير رجلا قبل الأوان.. يصارع قسوة الحياة.. يتعثر حينا ويقف حينا لكنه ماعرف السقوط، وماعرف الاستسلام فعكف على القراءة زاده وزواده. بنهم الأولين كان يقرأ ويقرأ، وبفكر حر كان يكتب.
ولأن الكلمة الحرة كانت له هاجسا، اختار كلية العلوم السياسية والإعلام بالعاصمة.. تفتحت الآفاق أمامه وخفق قلبه لحب كبير صار جرحا عميقا ما اندمل وما عالجته سنون العمر وظلت الكلمة وحدها السكن له وسط الجراح فغاص في الفكر والثقافة.. حاور روجي غارودي وخاطب غابريال غارسيا ماركيز.. رافق علولة وكاتب ياسين.. حاضر في المسرح وكانت عينه على الشباب المبدع.
من قضية الثقافة إلى قضية وموقف كانت الثقافة هاجسه الأبدي وفي وقت كان الكثيرون يستعملون تاريخ الثورة لصناعة الثروة كان صالح زايد يكتب عن الثورة التحريرية بصدق طفل عاش أحداثها وكان يدعو بإلحاح إلى كتابة تاريخ الثورة وليت شعري كان صوته قد سمع !
لقد كان صالح زايد صادقا مع نفسه ومع غيره، صريحا في آرائه، جريئا في مواقفه. كان صاحب نظرة ثاقبة وفكر متقد لايهدأ ولايستكين، ورغم أوجاع المرض ماكان يفارق الكتاب وماكان يدع القلم يفارق أنامله فكتب في الأدب والنقد وفي السياسة والفن والتاريخ.
كما العصافير المهاجرة كان ينتقل من فضاء إلى فضاء فيبدع في كل ما يكتب.. لايهادن.. ولايتلون بألوان الظلام.
وكما العصافير المهاجرة ماعرف الاستقرار، وماعرفت روحه السكون أو الطمأنينة، فاختار الرحيل قبل الرحيل.. اختار أن يكون بعيدا عن زمن الردة والتردي، تاركا كتابات خالدة وإن طواها النسيان زمنا طويلا فإنها تعود كما صالح زايد يعود تستقبله سكيكدة بالأحضان في الرابع والعشرين من مارس.. تزهر ورود الحياة. فمازال للكلمة صوت، ومازال الوفاء يمشي على الأرض.