تشكل الحوارات الأدبية والسجالات الفكرية مجالا خصبا لإثراء الساحة الثقافية ولخلق اللحمة والتكامل بين مجموع المثقفين أيا كانت اتجاهاتهم، خصوصا إذا استبعد المتحاورون الخلفيات وتمسكوا بالموضوعية وتفادوا العناد المنطلق من قاعدة «معزى ولو طارت»، وبوجه خاص إذا تفادى المحاور نصيحة ماكرة تقول: قبل أن توجه كلمة سيئة إلى محاورك فكر أكثر من مرة، فقد تجد كلمة أسوأ منها !!!!.
ولقد تابعت باهتمام ما تفضل به شاهد صوت الأحرار، وبغض النظر عن اختلافي معه أحيانا في الشكل وفي المضمون، خصوصا عندما أخذ عليّ أن أسميته الشاهد الخفيّ، وإلى درجة اتهامي بأنني (خرجت عن واجب الوقار والاعتدال المطلوبين في الكاتب)، وهو ما أسجل استعدادي للاعتذار عنهفورا إذا أرشدني الشاهد إلى كلمة أخرى أشير بها لكاتب استعمل توقيعا رمزيا، حيث يُكره استعمال التوقيع الرمزي.
وبغض النظر عن تاريخ إخوان الصفا وخلان الوفا الذين ذكّرنا الشاهد الكريم، خلال الاستعراض الذي نشر على صفحة ونصف الصفحة من الجريدة، أنهم كتبوا بالأسماء المستعارة، ليس سرّا أنني مارست الكتابة سنوات وسنوات بتوقيع رمزي، واعترفت بذلك كتابيا وعلى رؤوس الأشهاد،لكنني لم أستعمل التوقيع المستعار أبدا في شهادة تاريخية، قد تكون، من ناحية الوزن القانوني، أقرب إلى شهادة في المحكمة تفترض ذكر الاسم والعنوان وإن تغاضت عن الحالة الاجتماعية ولون العينين وطول القامة، ومن هنا رفضت التخفّي عند الإدلاء بالشهادة، في التاريخ أو في المحكمة.
لكن الشاهد الكريم راح يغمز يمينا ويسارا بما أراه انتقاصا من قيمة جهده، فأنا أعرف أن الرئيس هواري بو مدين، كما قلت شخصيا في مقالي، هو ملك للشعب الجزائري كله وجزء لا يتجزأ من تاريخه، ولم أكن في حاجة لمن يذكرني بأنه، كما قال الشاهد، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يحتكره أحد، وهي عبارة سمعتها مرارا ممن يشعرون بالضيق إزاء كلمة خير في حق الرئيس الراحل، وهو ما سأواصل القيام به بدون أن أبغي جزاء أو شكورا، أحب من أحب وكره من كره.
وعندما قلت أنني لا أنصب نفسي محاميا عن الرئيس الراحل كان الرد، آسف...المُضحك، هو القول بأن (نفي الشيء يعني إثباته)، ومن هنا لن أقول بأنني لست لائكيا حتى لا يُثبت ذلك أنني من رعايا الجمهورية الفرنسية، ولن أؤكد ألا علاقة لي بالجيش الفرنسي من قريب أو من بعيد حتى لا يعتبر ذاك إثباتا بأنني كنت كابرانا في جيش العِكْري.
وأعتذر عندما أقول أنني ضحكت مرة ثانية، بكل أدب، وأنا أقرأ قول الشاهد بأنه (تطرق عرضا)، أي والله...عرضا، للرئيس بومدين، في حين بدا أن الراحل هو المضمون الرئيسي للصفحات الثلاث التي تناول تْقضية أصبح بعض الخبثاء يجعلون من عبارة الضباط الفارين مرادفا لمرحلة حكم الرئيس بومدين.
ومن هنا قلت أنني لم أقرأ كلمة خير واحدة عنه عبر الصفحات الثلاث، اللهم إلا إذا كان قوله أن الضباط الفارين التحقوا بجيش التحرير قبل أن يكون بومدين صاحب قرار، وهي حقيقة معروفة يعتبر تجاهلها جحودا وقلة خير، لكن التساؤل يطل برأسه مرة ثانية عندما يثير الشاهد، عرضاً دائما، قضية رفات الشهيدين عميروش وسي الحواس، ويكرر ما رُوي عن اتهام الرئيس الراحل في قضية الشهيدين، وأترك للقارئ حق الحكم في المضمون وفي توقيت الطرح وفي الخلفيات.
والشاهد يرفض تشككي، الذي أراه مشروعا، فيما رواه عن رسالة يقول أن وزير الدفاع الجزائري وجهها إلى نظيره الفرنسي خلال عهد الرئيس أحمد بن بله، وبدون أي إشارة إلى موقف الرئيس منها أو علمه بها أو موافقته عليها أو رفضه لها، وهي رسالة تتعلق بضباط جزائريين كانوا آنذاك ما يزالون في الجيش الفرنسي كان مطلوبا، كما جاء في الشهادة، تحويلهم برتبهم وترتيبهم ومرتباتهم للجيش الجزائري.
والشكك استثارته في نفسي، والحكمُ دائما للقارئ، كلمة الالتماس، التي استعملها الشاهد في الإشارة إلى مطلب بومدين (المزعوم)، ويقول بأنه (سواء كانت العبارة التي استعملها المرحوم طلبا أو التماسا أو رجاء، فإنها لا تعدو أن تكون التماسا)، وهو يصر على تكرار كلمة الالتماس، ويستدل على ذلك بأن (وزير الدفاع الفرنسي كان في إمكانه أن يرفض الطلب ولا يقبله)، أي أن الشاهد يدخل هنا في ثوب الوزير الفرنسي وينبئنا عن نواياه، في حين كنت أرى أن تقديرالشاهد للرئيس
بومدين، كما يقول، هو بتفادي استعمال كلمة الالتماس، فالالتماس تصرف من الأدنى نحو الأعلى، وحاشا أن يكون الفرنسي أيا كان أعلى من ابن وطني، لكن الشاهد أصرّ على الكلمة، بل حاول فلسفة استخدامه لها.
ومن مضمون الحديث عن نتائج تلك الرسالة، التي أعتذر عن جهلي بوجودها، يؤكد الشاهد أن مجاهدي جيش التحريرالوطني، ممن استعرضتُ أنا أسماءهم في تعليقي، سمعوا وعلموا،(هكذا، سمعوا وعلموا) ولم يصدر أي فعل من أي واحد منهم إلا من العقيدين زبيري وشعباني، وهنا لا أملك أن أعلق، فهناك من هم أجدر مني بالتعليق على ما أراه إهانة لبعض من أحبهم.
ويصر الشاهد على أن بومدين أحاط نفسه بالضباط المدمجين بعد استرجاع الاستقلال، في حين أن أسماء أعضاء مجلس الثورة المحيطين ببومدين معروفة، وليس من بينهم واحدٌ من المُشار لهم، تماما كجماعة وجدة، وكمعظم قادة النواحي العسكرية، والوزراء والمستشارين بالرئاسة بل والأصدقاء الشخصيين للرئيس على قلتهم.
ولعلي أروي هنا قصة حدثت بعد سقوط الطائرة التي قضى فيها العقيد عبد القادر شابو وبعض زملائه في أبريل 1971، حيث دفنوا في فورة الحزن في مربع الشهداء، وعلى وجه التحديد، في المكان الذي دفن فيه فيما بعد الرؤساء بن بله والشاذلي وعلي كافي، أي في مواجهة ضريح الأمير عبد القادر.
وتوجهت إلى العالية في يوليو من العام التالي للمساهمة في إعداد وقفة الترحم المألوفة، وفوجئت بعمال يحفرون قبور الضباط، فاتصلت فورا بالأمين العام لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد أمير، أبلغه بالأمر، وعرفت منه أن تلك كانت تعليمات الرئيس، الذي أمر بنقل رفات الضباط خارج إطار مربع الشهداء، ليدفنوا مع إطارات الدولة في الجانب الآخر من المقبرة.
وأدركتُ يومها أن بو مدين كان يعرف تماما كيف يُقيّم الرجال، وكيف يفرق بين السابقين الأولين وغيرهم من العاملين في خدمة الدولة، وبأنه يُعطي لكل حقه وقدره ومكانته.
ولقد تناولت في مقالي ما اقتبسه الشاهد من مذكرات العقيد طاهر زبيري في قضية شعباني، واكتشفت قبل أن ينتهي اليوم أنني أخطأت في الاعتماد على ذاكرتي، وعلى غير عادتي، فسارعت قبل العشاء إلى إرسال تصحيح واعتذار للصحيفة، التي تفضلت بنشره داخل إطار واضح في يوم تالٍ، وقمت أيضا بإرسال نص مصحح إلى صحف أخرى، حرصا على الأمانة وعلى إعطاء كل ذي حق حقه، وتسجيلا لاعتذاري عن خطأ ليس سرا أنه لم يكن مقصودا.
ولست أدري أين وجد الشاهد الكريم أنني (أريد إضفاء هالة من القداسة على تاريخنا تحجب عن الأجيال رؤية حقائقه بحجة عدم تدنيسه)، كما اتهمني، ولا أرى أين ومتى، أنني حاولتُ أن أعطي دروسا في التاريخ، في حين كان ما قلته أن شهادة تاريخية بدون توقيع هي ناقصة المصداقية، وبأن القضايا التاريخية المختلف عليها يجب أن تبحث في أكاديميات البحث العلمي ومراكز الدراسات المتخصصة وليس على قارعة طريق عام يجتازه المارة من كل نوع ومن كل دين ومن كل انتماء، ومن كل سن ومن كل جنس.
والغريب أن الشاهد، وهو ينسب لي ما لم أدعيه، يتفق معي فيوردُ نقد كبار المؤرخين الإسلاميين لتصرفات بعض الصحابة، وأقول ثانية...كبار المؤرخين، بمعنى أن النقد مسموح به لمن هم في ذلك المستوى، ولا يمكن أن يكون علكا للسابلة وقطاع طريق التاريخ، ممن عرفنا أمثالهم في الشهور والسنوات الماضية، وهذا هو مضمون ما قلته.
ولست أدري ماذا كان الشاهد يريد مني أن اقول ضد الخصوم الذين حاولوا تشويه صورة الرئيس بومدين أكثر من مئات الصفحات التي أكتبها منذ سنوات وسنوات، والتي جعلت السيد سايد سادي يقول، عند تعييني العابر وزيرا للثقافة، بأن هذه كارثة.
وقد لا أختلف، عاطفيا، مع الشاهد وهو يقول بأن قضية العقيد شعباني، شهيد المرحلة المعقدة كما أسميته، سوف تشكل جرحا غائرا ومؤلما في جسد وذكرى دولتنا لن تمحوه الأيام ولن تطويه السنين، لكنني أتحفظ، عقلانيا، على ما قاله، لأن النظرة الواعية إلى المستقبل سوف تفرق بين أخذ العبرة من التاريخ وبين البكاء والعويل على الأطلال، وتفصل بين جرائم العدوّ وتجاوزات الرفيق، وتعرف دائما أن الأعمال بالنيات.
ولعلي أضيف إلى قائمة الشهداء المحفورة في الذاكرة محمد العموري ومصطفى الأكحل وعباس لغرور ومحمد الطاهر زعروري وعبد الكريم عباس وآخرين أفلتوا من الذاكرة مع الأيام.
رحم الله شهداءنا والمرحومين من رجالاتنا، ومنحنا القدرة على الوفاء لهم والتذكير دائما بتضحياتهم.