لا يمكن الرفع من النمو بعيدا عن نجاعة وقوة الصناعة
يخوض الدكتور احمين شفير استاذ العلوم الاقتصادية بجامعة الجزائر في نشأة وتطور المؤسسة الاقتصادية العمومية بشكل مفصل، على ضوء الجانب التاريخي ويتطرّق بتشخيص دقيق إلى القدرات الحالية ومدى نجاعة وقوة أدائها، ويقف على الخطوات التي ينبغي الارتكاز عليها في التحول الذي تعرفه من أجل اقتحام الأسواق وفرض جودتها وتنافسيتها، ولم يفوت الفرصة ليدعو إلى الاستفادة من تجربتي أزمة أسعار النفط التي تشدّد على التعجيل بتطوير القدرات الإنتاجية والتركيز بشكل عميق على التصنيع، لكن ليس التصنيع من منظورتقليدي، بل من منظور العولمة.
«الشعب»: كيف تقيّمون نجاعة وأداء المؤسسة الاقتصادية العمومية في هذا الظرف الحساس؟
الدكتور شفير أحمين: لا يمكن فصل أداء المؤسسة العمومية الوطنية عن التطور الاقتصادي للجزائري منذ الاستقلال إلى غاية اليوم، ويجب العودة في هذا المقام تاريخيا إلى ظروف ما بعد الاستقلال، حيث ورثت بلادنا عن الحقبة الاستعمارية اقتصاد مفكك وهش، بدون أي بنية، وجميع الدراسات أكدت أن القطاع الصناعي كان شبه معدوم والمؤسسات الخاصة لم تكن موجودة، ماعدا مؤسستي «حمود بوعلام» و»بن شيكو» للتبغ حيث كانت تعد على الأصابع، وحتى الفلاحة لم تسلم من التخلف، فلم يكن موجودا قطاع الأعمال وكذا طبقة بورجوازية وطنية تتحمل بناء الاقتصاد بعد الاستقلال، لذا قررت الدولة بناء مؤسسات عمومية إستراتجية، وإعطاء الأهمية للصناعات المصنعة، مع منح الأولوية للصناعات الثقيلة، والهدف المنشود كان إرساء قاعدة صناعية ثقيلة لإنتاج الآلات وإنشاء المصانع الموجهة للصناعات الخفيفة، وخلاصة القول، أنه كانت للقطاع مهمة البناء الوطني، إلى جانب إسناد مهمة أخرى حرص على تجسيدها، ويتعلق الأمر بالمهام الاجتماعية والمتمثلة في توفير مناصب الشغل، فكانت العديد من المصانع تشغل أكثر مما تستوعب، لأن المشكل الأساسي بعد الاستقلال تمثل في البطالة، وتحدي بناء صناعة قوية للبلد، مهمتين كبيرتين، يضاف إليها مهام اجتماعية أخرى تتمثل في توفير المطاعم والنقل للعمال وما إلى غير، فلم تكن أهداف الربح التجاري من الأولويات، كان انشغال السلطات العمومية في بناء قاعدة صناعية لا يهم حتى وإن تجسد بتكلفة عالية، مع التكفل بالجبهة الاجتماعية من مقاربة إقتصادية إلى غاية عقد الثمانينات، على اعتبار أنه حدث تغيير مع مطلع عقد الثمانينات، حيث بدأ التحوّل مع إعادة النظر في الإستراتجية التنموية، وشمل ذلك إعادة هيكلة المؤسسات العمومية عام 1982، أي هيكلة مالية وتنظيمية من خلال إعادة ضخّ أموال للمؤسسات التي تكبدت خسائر من أجل تحقيق التوازن، وفي إعادة الهيكلة التنظيمية تم تشتيت المؤسسات الكبيرة وإعادة تنظيمها على شكل مؤسسات صغيرة وتقسيمها بعد ذلك إلى عدة أجزاء. وسعت هذه الخطة إلى تجزئة القطاع العمومي على أمل أن ينهض كبديل له قطاع خاص يقود التنمية، وعندما عصفت أزمة 1986 شكلت صدمة كبيرة على الاقتصاد الوطني وتشبه نوعا ما الأزمة التي نعيشها في الوقت الراهن بخصوص انهيار أسعار النفط وارتفاع فاتورة الواردات.
1100 مؤسسة محلية تمت خوصصتها بطريقة عنيفة
إذا عندما تغير التوجه الاقتصادي والسياسي، تم الارتكاز على التخلي عن الإستراتجية التنموية، وما قابلها من مديونية كبيرة وانخفاض في أسعار النفط وهذا ما أدخل الجزائر في أزمة اقتصادية حادة، فرضت تدخل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، حيث تمت جدولة ديون الجزائر، مقابل تطبيق سياسة «الأفامي» المتمثلة في خوصصة القطاع العمومي وتشجيع نمو القطاع الخاص، أي في عام 1995 وضعت الجزائر أول قانون للخوصصة، وشرعت في خوصصة المؤسسات، المحلية كمرحلة أولى أي خوصصة ما يناهز 1100 مؤسسة محلية، وتمّ تسريح على إثر ذلك ما لا يقل عن نصف مليون عامل، ورفع في تلك المرحلة شعار أن القطاع العمومي استهلك الكثير من الموارد العمومية وصار قطاعا مفلسا أثبت فشله والحل خوصصته.
وفيما يتعلق بالأداء والنجاعة، فلا يمكن تقييم الأداء دون العودة إلى المسار التاريخي، على اعتبار أن عملية الخوصصة فككت بشكل عنيف لا اقتصادي ولا وطني للنسيج المؤسساتي العمومي، لأنه تم بيع العديد من الوحدات الإنتاجية بدون احترام قوانين الخوصصة التي وضعت، على غرار ما تعرض له «مجمع الحجار» وعدة وحدات إنتاجية للزيوت والنسيج والآجر، فحطمت بدل أن تخوصص بعقلانية، لأنها لم تخضع لدراسة اقتصادية علمية وموضوعية، ورغم أن القطاع يملك عقار وأموال ومعدات وآلات ويد عاملة مؤهلة، الكثير من المؤسسات تمّ بيعها بأقل من قيمتها، والخزينة العمومية لم تستفد من أي شيء، وفوق كل ذلك العديد من المؤسسات الاقتصادية التي خوصصت لم تحتفظ بنشاطها رغم أن قانون الخوصصة يشترط استمرار النشاط الأساسي للمؤسسة، في حين المؤسسات التي بقيت فرض عليها نوع من الحصار. وحان الوقت للتخلي عن نظرة التمييز بين الاقتصاد العمومي والخاص، كون النظرية الاقتصادية لا تميز بينهما، بل يؤخذ بعين الاعتبار كفاءة المسير ومحيط الأعمال للمؤسسة العمومية والخاصة، وما يحدّد نجاعة المؤسسة ليس طبيعة الملكية خاصة أو عامة، بل القدرة التسييرية وتحسين محيط الأعمال، ويمكن القول في هذا السياق أن نجاعة المؤسسة مرتبط بسياسة وإستراتجية البلد، أي إستراتجية تنموية والقدرة على اقتحام الأسواق، ويتطلّب الأمر استرتجية لدعم الصناعات ويجب أن ترتكز كذلك على حماية المؤسسة ومنحها التسهيلات لرفع تنافسيتها للتواجد بالأسواق. ولا أرى نظريا أن القطاع العمومي أقل شأنا من حيث القدرات على استحداث مناصب الشغل ودفع عجلة التنمية، حتى «الأفامي» والبنك العالمي أعادا النظر بخصوص المؤسسة العمومية، ويعتبرون أنه يمكنها اليوم أن تلعب دورا هاما في التنمية وذلك بسبب ضعف القطاع الخاص في الدول النامية، ولا يخفى أن القطاع الخاص في الجزائر مازال ضعيفا ويتموقع بشكل كبير في الخدمات والتجارة والصناعة الغذائية وكذا انتشاره في القطاع غير الرسمي وعدة قطاعات أخرى هامشية لا تلعب كمحرك للتنمية، بينما المؤسسة الاقتصادية التي تحرك الاقتصاد وتنشط في تكنولوجيا الاتصال يغيب عنها الخواص. وحتى «الأفامي» يعترف أن للقطاع العام دور هام في بعث النمو، وتحسن أدائه بشكل كبير على صعيد الإنتاج والأداء وكذا جودة المنتوج، لكن مستوى النجاعة والأداء مازال دون المستوى بالنظر إلى التحديات التي تواجه المؤسسة الاقتصادية، أي من حيث اكتساب التكنولوجيا وترقية «المناجمنت» والوصول إلى الأسواق، وهذا لا يرجع للقطاع الاقتصادي وحده بل كذلك إلى مناخ الأعمال، لهذا الاقتصاد الجزائري في الوقت الراهن بحاجة إلى نظرة إستراتجية لتطوير قطاعها الإنتاجي مع تحديد الأولويات.
اقتصاد المعرفة ينبغي أن يكون في الصدارة
يوجّه للقطاع العام وللمؤسسة الاقتصادية العمومية بشكل خاص، انتقادات كونها تستفيد من ضخّ ضخم ودعم كبير، أي من خلال عمليات التطهير المالي من طرف الدولة دون أن تطرح البديل من خلال الإنتاج في السوق؟
لا أتفق مع هذا الرأي، لكن يجب التوضيح أن المستفيد منذ 15 عاما يتمثل في القطاع الخاص، من خلال الإعفاءات الضريبية والجمركية ويستفيد من المرونة كذلك، وتقوم بعض المؤسسات الخاصة بالتهرب الضريبي وإلى جانب تهرب البعض الآخر من دورها الموطناتي، بينما القطاع العمومي وحده من يدفع الضريبة ويفوتر ويصرّح بعماله لدى مصالح الضمان الاجتماعي، لذا لا ينبغي اتهام القطاع العمومي بأنه يلتهم الأموال، واغتنم الفرصة لدعوة الخبراء من أجل تقييم فعلي للأموال التي استفاد منها القطاع الخاص على شكل الاعفاءات والدعم من خلال توفير العقار والسماح لهم بالاستيراد، رغم أنني لست ضد القطاع الخاص لأن هذا القطاع له دوره التاريخي، ويجب أن يتوجه للإنتاج وخلق الثروة واستحداث مناصب الشغل.
ماهي جوانب القوة والضعف في المؤسسة الاقتصادية العمومية؟
^^ أكيد أن من نقاط الضعف الرئيسية التسيير، فإذا لم يتم تغيير طريقة التعيين واعتماد معيار الكفاءة ودفتر الشروط لكل مسير لا يمكن أن نغيّر بسرعة ونحقق الأهداف التي نطمح إليها، واقترح أن التعيين يجب أن يتم بطرق اقتصادية، إلى جانب النقص في توفر الكفاءات وتهميشهم وعدم الاهتمام باقتصاد المعرفة، كون الاقتصاد العالمي مبني على المعرفة، والمؤسسة العمومية والخاصة لديها الإمكانيات لتنطلق لكنها تحتاج إلى نظرة إستراتجية شاملة بأهداف بعيدة من خلال مشاركة الفاعلين.
يعرف القطاع الصناعي العمومي إعادة تنظيم، عن طريق استحداث نظام المجمعات، ما هي انعكاسات هذا التنظيم برأيكم؟
** إنها مسألة إيجابية، ويمكن أن تكون ذات فعالية، شرط احترام قواعد «المناجمنت» الحقيقية، واعتماد اقتصاد المعرفة، وتطوير الموارد البشرية، علما أن الاقتصاد العالمي يعد اقتصاد تجمعات، ويتجه اليوم نحو التجمعات الكبيرة التي تحتكر المعارف والكفاءات المتميزة والإطارات ذات القدرات العالية، ولا يخفى أن المؤسسة الجزائرية العمومية لن تكون فعالة دون تجميع لكن شرط أن هذه الاحتكارات لن تبق تسير بالطرق التقليدية، كون المجمعات العالمية تقوم على الشبكات وتنتهج أسلوب تقسيم العمل الدقيق، وبدورها هذه المجمعات تحتاج كذلك إلى نظرة إستراتجية شاملة ومن الضروري أن تعمل بالتكنولوجيا الحديثة.
الظرف يحتم التعجيل بتطوير القدرات الإنتاجية
*هناك بعض المؤسسات تعاني من متاعب، من بينها صعوبة التعامل مع النظام المصرفي، في وقت سقط فيه التمييز بين العمومي والخاص، هل المسألة تتعلق بالذهنيات أم هناك مبررات أخرى؟
أرجعها إلى غياب العلم والمعرفة وكذا النظرة الإستراتجية، وأغتنم الفرصة للدعوة من أجل التفكير العميق، ومن جميع الجوانب في الاقتصاد والمؤسسة الوطنية، وإذا وصلنا إلى هذا المستوى، سنكون قد قطعنا خطوة متقدمة نحو المستقبل، لأن جميع عيوب المؤسسة العمومية سجلت لأسباب غير اقتصادية.
كيف يمكن بناء شراكة اقتصادية عمومية خاصة، دون أن يخسر الأول عناصر قوته، خاصة العقار؟
الشراكة بين القطاع العمومي والخاص أكدت فعاليتها في العالم، بشرط أن تكون مشاريع إنتاجية يستفيد منها القطاعين والبلد على حد سواء، ولا أعتقد أن يكون هناك أي ضرر، والمهم في كل هذا يتمثل في الإنتاج، حتى تتجه الجزائر بسرعة نحو الإنتاج، ولعل تجربتي أزمة أسعار النفط تشدّد على التعجيل بتطوير القدرات الإنتاجية والتركيز بشكل عميق على التصنيع، لكن لا يتعلق الأمر بالتصنيع بمنظوره التقليدي وإنما من منظور العولمة.
19:17:14
تعد التجربة التاريخية للنمو بالنسبة للبلدان الصاعدة مثل الهند وكوريا الجنوبية والصين، خير دليل على أن أي تطور لا يمكنه أن يتحقق دون تصنيع، ولأن الصناعة أساس أي تنمية، وأقصد التصنيع الذي يتجسد بالتكنولوجيا التي تكتسب، ومنح الأولوية والأهمية للبحث العلمي وكذا التأهيل وتكوين الإطارات، وبالمقابل يتطلب الظرف إعادة النظر في السياسة الطاقوية.