إرساء آليات التّنفيذ لإضفاء الصّرامة على القرارات
حظي الشق الاقتصادي في وثيقة المشروع التمهيدي لتعديل الدستور بالكثير من الاهتمام، حيث عكف على تأطير التحول الاقتصادي الذي تعيش الجزائر في الوقت الحالي بداية مساره، وحدّد الخيارات التي ينبغي تبنّيها في الفترة الراهنة من أجل مواجهة تحديات بناء اقتصاد وطني منتج ومتنوع بإرادة قوية عن طريق تجند الجميع عبر إرساء استثمارات حقيقية في ظل الشفافية والصرامة في تجسيد القانون، ويأتي مشروع التعديل في ظرف يتّسم بصعوبات ناجمة عن الصدمة الخارجية المرتبطة بانهيار أسعار المحروقات التي تملك الجزائر كل الإمكانيات المالية والبشرية، وبما فيها الإرادة السياسية لتخرج من قبضة التبعية النفطية إلى اقتصادي ذا تنافسية عالية يخلق الثروة ويمتص البطالة. فهل سيمهّد المشروع المقبل للوثيقة الدستورية، الأرضية الصلبة وفيما بعد آليات التجسيد الصارمة لتطبيق التصورات الاقتصادية الكبرى التي تتطلع إليها الجزائر لتقفز إلى مصاف الدول الناشئة؟
لا مجال للشك في أنّ للجزائر كل القدرات المغرية حتى تفتك لإنتاجها حصة معتبرة في السوق ولاقتصادها مكانا ضمن الاقتصاديات الناشئة، والتي تتطلع نحو منحى تصاعدي نحو التطور والنمو بوتيرة معتبرة، ولعل الترسانة القانونية والإجراءات التسهيلية التي تطرح في كل مرة سواء من خلال قوانين المالية أو أطر أخرى، والتي تصب معظمها في تشجيع المؤسسة الوطنية سواء كانت عمومية أو خاصة، وحسم مشروع الدستور في المساواة بين الآلة الإنتاجية وجعل النسيج الاقتصادي في كفة واحدة، سواء كانت ملكيته تابعة للدولة أو الخواص أو حتى مناصفة بين أجانب وجزائريين لأن الوقت الحالي يتطلب تجند جميع القوى الاجتماعية ممثلة في العمال والنقابات والاقتصادية متمثلة في المتعاملين وأرباب العمل وأصحاب الأموال والحاملين للأفكار، كون كل مشروع ناجح يبدأ من فكرة جديدة ورؤية ذكية بهدف تطوير آليات الإنتاج وذهنية التسيير التي يجب أن تواكب أحدث التطورات، وترتكز على ذوي الكفاءات، وتعرف كيف يمكن أن تقتحم الأسواق بمنتوج ذا تنافسية وبأقل كلفة حتى تجنى الأرباح ويحقق الرواج في السوق.
الحوكمة الاقتصادية خيار لا غنى عنه
ومن بين الأولويات التي خصّها مشروع التعديل الدستوري بالعناية في سلسلة من المواد المقترحة الموزعة بين عدة مواد رقم 17 و37 و173 و7 و8، نذكر منها التشديد محور جوهري شرع في تجسيده ويتعلق ببناء اقتصاد متنوع ذا تنافسية عالية وإنتاج كثيف، مع الإبقاء على الملكية العامة للثروات الباطنية وكذا المؤسسات الإستراتجية على غرار مجمعي “سونطراك” و«سونلغاز” ومؤسستي البريد والسكك الحديدية، وأقر مشروع الدستور الجديد حرية الاستثمار والتجارة في إطار ما ينص عليه القانون، إلى جانب تحسين مناخ الأعمال الذي من شأنه أن يغير وتيرة النمو إلى سقف أعلى.
ويبقى مكسب الحوار الاقتصادي والاجتماعي جوهريا بعد أن تمت دسترته في المشروع، ليكون القناة التي تثار فيها الانشغالات وتبلور فيها المقترحات ويفصل فيها في المسائل الاقتصادية، وتلك المتعلقة بعالم الشغل ولها علاقة بالقدرة الشرائية والجبهة الاجتماعية، علما أن هذا الحوار نجح إلى حد كبير على اعتبار أنه تحول إلى تقليد يلجأ إليه الفاعلين للبت في المسائل التي يقع حولها الخلاف، وافتك خيار الحوكمة الاقتصادية اهتماما بالغا، وتأكد أنه لا يمكن الاستغناء عنه في معركة تنموية مصيرية، إلى جانب السهر على أخلقة الممارسات حيث تم تناول كل ذلك في عدة مواد شملت رقم 8 و21 و64 و170 و173 و5 و6، ومن أجل توفير الحماية الحقيقية والدائمة للاقتصاد الوطني، وقطع دابر الرشوة مع وضع حد للممارسات المشبوهة والتجاوزات التي تخرق القانون، وفرض الصرامة في إلزامية التصريح بالممتلكات
يشكّل مقترح ودسترة هيئة وطنية مستقلة للوقاية من الفساد ومكافحته خطوة نحو تكريس الشفافية وتعزيز استقلالية بسط السلطة على جميع أشكال الغش والتهرب الجبائي وتهريب الأموال عن طريق تمكين البرلمان الذي يملك سلطة الرقابة على إنفاق المال العام من استغلال التقرير السنوي لمجلس المحاسبة.
أكيد أنه لا بديل عن حتمية توسيع مساحات الاستثمار، وتكثيف النسيج الإنتاجي في ظل وجود حرية الاستثمار والتجارة التي أعلن عنها مشروع وثيقة الدستور في مادته رقم37، التي اعترفت بشكل صريح بحرية الاستثمار والتجارة. وقفت التعديلات التي وردت في مشروع الدستور على العديد من التفاصيل التي تخص المجال الاقتصادي، حيث تم الأخذ بعين الوضع الاقتصادي الحالي والأزمة المالية التي صاحبها انهيار أسعار النفط، وما انجر من آثار محسوسة من الصدمة الخارجية على إيرادات الجزائر من العملة الصعبة، والتي تراجعت شهر سبتمبر الفارط إلى حدود 152 مليار دولار. وبالنظر إلى أهمية التحول الاقتصادي الجاري في الوقت الراهن، خاضت وثيقة مشروع تعديل الدستور في جميع التفاصيل التي من شأنها أن تساعد الاقتصاد الوطني على الانفتاح على التنافسية وتكثيف إنتاجه وتنويع ثرواته، فلم يكتفي بوضع التصورات الكبرى الناجعة على المديين المتوسط والبعيد بل عزّز من الإجراءات التحفيزية للنمو، وكذلك توفير الحماية والوقاية من كل الأساليب الملتوية التي تتجاوز القانون. وجاء الشق الاقتصادي للدستور ليطمئن مرة أخرى الجزائريين ببقاء الدولة كمرافق وضامن وحامي للملكية، ومدعّم كذلك لمبادرات الخواص للمساهمة في معركة التنمية الوطنية.
الشّفافية والحكم الرّاشد
ودون شك، فإنّ هذه الوثيقة التمهيدية خلال المشاورات أخذت بعين الاعتبار وتبنّت العديد من مقترحات الخبراء الاقتصاديين، وتمّت صياغتها بعد تشريح الوضع الاقتصادي الحالي بشكل دقيق وحددت الأفق بنظرة ثاقبة، آخذة بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي الذي يجب أن يتطور وفق النمو الاقتصادي، علما أنّ المادة 55 من مشروع الدستور، وفرت كل الحماية للعمال، حيث أقرّت ضرورة استفادة كل عامل من الحماية الاجتماعية لتضع حدا لعالم الشغل الموازي الذي يهضم العديد من حقوق اليد الشغيلة. وبخصوص مسألة الجباية، فأرسي عنصر المساواة بين المواطنين في أداء الضريبة حسبت ما نصت عليه المادة 64، حيث تم اعتبار أي تجاوز في أدائها مساسا بمصالح المجموعة الوطنية ويخضع لقمع القانون، ومن شأن هذا الإجراء تشجيع التحصيل الجبائي وبسط النفوذ على من يتهرب من واجب التسديد الجبائي، ويرتقب أن يرتفع بذلك مستوى التحصيل الجبائي لسببين يتعلق بالتحصيل الجيد، وكذا توسع نسيج المؤسساتي وتفعيل الاستثمار الذي سيساهم في ارتفاع الجباية العادية. ويمكن القول أن البحث عن إرساء جباية اقتصادية مغرية جد مهم في الوقت الحالي، كون الجباية التقليدية التي تشمل الرواتب محدودة الأفق، خاصة أن الجزائر لا تتجه نحو التقشف، وإنما تسير باتجاه ترشيد النفقات وإطلاق النمو.
يذكر بالموازاة مع ذلك وفي إطار قمع الغش وتطبيق القانون، أنه أسند على عاتق مجلس المحاسبة مهام حساسة وإستراتجية، تبدأ من صرامة الرقابة لأنه يتمتع بالاستقلالية التامة، وتطوير الحكم الراشد لبلوغ أعلى سقف من الحكامة الاقتصادية، ويعوّل عليه كثيرا في مراقبة رؤوس الأموال التجارية للدولة والجماعات المحلية وكذا مختلف المصالح العمومية، على اعتبار أن المادة 70 تطرّقت إلى استقلالية مجلس المحاسبة وإلى المهام التي تنتظره، نذكر منها إرساء الشفافية وتسيير الأموال العمومية، وتم بذلك منح الضوء الأخضر لهذا المجلس لحماية المال العام، وبذلك ستكون المؤسسات العمومية تحت المجهر لوقف أي تبديد يطال مواردها، ويأتي تسييرها نزيها وشفافا بفضل أدوات الرقابة الفعلية التي ينتظر أن تعطي الكثير على المديين المتوسط والبعيد لأنه لا يعقل أن ينطلق في مسار النمو دون ضبط الحياة الاقتصادية القائمة على حرية الاستثمار، وتشجيع جميع مبادرات النمو واستحداث المؤسسات التي تلقى كل الدعم والتشجيع من طرف الدولة.
إذا طرح المشروع التمهيدي للدستور جميع الحلول والضوابط لاقتصاد وطني منتج وناشئ يشارك فيه القطاعين العمومي والخاص بنفس الحظوظ، ومبدأ تكافؤ الفرص لتقاسم مهمة استحداث الثروة وتنويع المنتوج الوطني، لكن ومع ذلك تثار عدة انشغالات لدى الخبراء والمتتبعين، أهمها مدى الصرامة في تطبيق جميع المسائل التي تمت دسترتها والحسم فيها في أسمى نص قانوني حتى يضمن تكريس جميع التصورات الكبرى، وينجح في ترجمة تأطير حقيقي للتحولات الاقتصادية، فهل سيتم إطلاق آليات جدية تعمل بحزم ولا تتساهل مع أي تجاوز مسجل من طرف مؤسسة عمومية أو خاصة؟ كون الرشادة الاقتصادية مفتاح أي تطور للآلة الإنتاجية لدى مختلف الدول.
هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يمكن أن يقبل في المرحلة الحالية والمقبلة سلوكات التسيير الارتجالية التي يطلق فيها المشروع، ثم يعاد ضخ الأموال من أجل استكماله، فهنا يجب لسلطة القانون أن تتحرك لوضع حد لمثل هذه الظواهر المشينة التي يبدّد فيها المال العام.