طباعة هذه الصفحة

توّجهات التعديلات الدستورية

تقوية وظائف المؤسسات.. وإحداث التوازن بين السلطات

جمال أوكيلي

مسار تعديل الدساتير الجزائرية يندرج في إطار تكييف المؤسسات مع السياقات الداخلية، والخارجية ... ومنحها الطابع الواسع للمشاركة الشعبية حتى تؤدي الوظيفة المخولة لها .. والمهمة المنوطة بها وهذا في إطار نسق عام، قاعدته التوازن في مهام السلطات التنفيذية، التشريعية والقضائية.
الدساتير الجزائرية هي وليدة خيارات سياسية وإقتصادية وإجتماعية ... ونتاج ظروف معينة أملتها حتميات لا مفر منها سعت من أجل إقامة آليات لتنظيم العلاقات بين المؤسسات وبدأ هذا التوجه في دستور ١٩٧٦ .. الذي يصفه فقهاء الأنظمة الدستورية بـ «دستور ـ البرنامج» الحامل لمنطلقات فكر إيديولوجي المبني على الإشتراكية .. هذا ما يعطي التصور الكامل لكيفية عمل هذه  المؤسسات.
ومهما قيل عنه .. فإنه يعد وثيقة جديرة التذكير بها كونها أرست مبادئ البناء الدستوري في الجزائر .. واستلهم منه مدونو دستور ١٩٨٩ مواد حيوية أعيد إدراجها في الصيغة النهائية .. لأنها تجربة ثرية ورائدة في آن واحد .. سمحت بالذهاب بعيدا عقب ١٣ سنة من الممارسة ليتقرر الدخول في منطق دستوري جديد .. جاء نتيجة للتحولات التي طرأت على البلد آنذاك … وبخاصة أحداث أكتوبر ١٩٨٨ التي كانت المحطة الفاصلة في الإنتقال إلى مفاهيم سياسية حديثة لم تكن واردة بتاتا في الخطاب الجزائري .. مقدمتها الإصلاحات التي أفرزت قيم تدخل لأول مرة أدبيات المشهد الجزائري آنذاك .
هذا الدستور أسّس لميلاد التعددية الحزبية التي كان يسميها بـ
« الحساسيات» زيادة على الشروع في الإنفتاح على المجال الإعلامي، والتجاري تماشيا مع الدعوات التي كانت تطالب برفع الإحتكارات.
وهكذا سار الحال على هذا المنوال لسنوات أخرى...
ومرة ثانية ... إضطرت السلطة بعد ٦ سنوات أي في سنة ١٩٩٦ مراجعة جذرية للدستور وهذا من خلال إقامة آليات جديدة لا تسمح لأي أغلبية الإنفراد بالقوانين على مستوى الغرفة الأولى ـ وتمريرها دون أي اعتراض عليها .. وتطلب ذلك تغييرات على النصوص المسيرة للعملية الإنتخابية وهو ما يعرف بالقوانين العضوية» ليكون تطبيقها على نفس موجات .. ما أشار إليه الدستور.
وهكذا تم إنشاء مجلس الأمة .. الذي هو بمثابة تعزيز للمسعى التشريعي في الجزائر لتجربة حديثة العهد في النظام السياسي الجزائري وهو الغرفة الثانية أو السفلى يعمل على قراءة ثانية لمشاريع القوانين .. وكل ملاحظة تنم عن عدم دستوريتها تكون محل تصويب دقيق وهذا كله حتى لا يتكرر ما حدث في التسعينيات …
ودستور ١٩٩٦ بني في مضمون فلسفته على إحداث التوازنات الكبرى في علاقات المؤسسات لوضع حد لكل تجاوز متوقع .. كما أغلق باب التعاون في الإستحواذ على الأغلبية المطلقة، وعَين معدي هذه الوثيقة كانت دائما منصبة على ما حدث في محليات وتشريعيات التسعينيات ... وهذا بمنع أي هيمنة لتشكيلة على تشكيلات أخرى بالبرلمان .. كما كانت هناك إضافات دستورية جديدة جديرة بالإشارة إليها.
وكانت دائما هذه الوثيقة محل إنشغال من قبل السلطات العليا في البلاد، من أجل أن تكون في خدمة الجزائر ... وهذا باستحداث  التوازنات الكبرى في المهام والوظائف المتعلقة بالسير الدستوري للسلطات والمؤسسات.
 وهذه الإرادة نابعة من الإيمان العميق بأن تسيير شؤون البلد على أكثر من صعيد يتطلب أن يكيف الدستور مع السياق الراهن... قصد السماح بالولوج في قضايا تخص الأمة في المقام الأول .. والذهاب إلى أفق أخرى لابد منها والتعديل يرمي إلى تقويم حالة دستورية معينة تنبني على تدعيم صلاحياتها وتقوية حضورها.
هكذا كان التوجه خلال سنتي ٢٠٠٥ و٢٠٠٨ إلى ترسيخ هذا الخيار ألا وهو إدراج مكّون من مكونات الشعب الجزائري « دسترة الأمازيغية» وحماية رمزية الثورة والمجاهدين، وإيلاء مكانة خاصة للمرأة الجزائرية وهذا بتوسيع وجودها في المجالس المنتخبة، هذا المسعى الوطني الصادق منح للدستور الجزائري .. ثوابت أخرى من أجل فتح المجال أمام الوثبة الوطنية في السياسة والإقتصاد .. وغيرها .. لتحريك دواليب الدولة وإخراجها من الجمود.
وهذا مازاد حقا .. في الاحترام والتمسك بهذه الوثيقة كونها المرجعية الفريدة والوحيدة في الجزائر التي سمحت في ترقية قطاعات حساسة جدا .. كان دائما يعمل البعض على استغلالها  لأغراض سياسوية .. وبمجرد أن تشتت كمواد في الدستور إنتهى ذلك النقاش والجدل بخصوصها.
والسيرورة ماتزال متواصلة إلى يومنا هذا من باب استكمال التعديل باتجاه ما يخدم مصلحة الجزائر وهذا بإدخال كل العناصر التي بإمكانها أن تكون عاملا قويا في بناء المؤسسات والتي بدورها تمتن ركائز الدولة وهيبتها .. وخير دليل على ذلك المحاور الجديدة المقترحة لهذا التعديل الحالي .. التي تهدف مرة أخرى إلى تعزيز الأداء الدستوري في الجزائر .. وفق رؤية تضفي طابع الديمومة على المواد المعنية.
 التدقيق .. والتكامل
وعليه فإن التعديلات تتوجه إلى إحداث التكامل في نشاط السلطات والمؤسسات، وهذا بالتحكم أكثر .. أو بالأحرى ضبط العملية السياسية في حركيتها وكذلك في اتجاهها وهذا بمعرفة مسارها من نقطة إنطلاقها إلى سقفها المحدد وهذا ما يسجل اليوم في الدساتير الجزائرية.
وما يجلب الإنتباه في هذا التعديل الحالي هو تعميق الفعل الدستوري... بأبعاده المتنوعة وهذا بتحصين المسائل ذات التأثير والوزن في الجزائر كتعزيز الوحدة الوطنية تجاه التاريخ والهوية والقيم الروحية والحضارية .. هذا الجانب كفيل لوحده أن يكون محميا في مواد متينة ومتماسكة تنطبق شروحاتها المفصلة فيما يعرف بالديباجة التي تفتح الآفاق الرحبة في معرفة أغوار هذا الشعب منذ القدم عبر مسيرته التي كانت دائما تؤكد على قدرته الفائقة في بناء كيانه بعيدا عن أي تدخل أجنبي .. ودعم هذا الأمر بالمقومات والثورات الشعبية التي تعتبر عاملا شديدا في ضمان الوحدة الوطنية .
وامتداد لترسيخ هذه المبادئ ... فإن هناك إشارة  واضحة للتكفل بحقوق المواطنين وحرياتهم ... وتتبعه في ذلك إستقلالية العدالة، والفصل بين السلطات وتكاملها ... وإمداد المعارضة البرلمانية بالوسائل التي تمكنها من آداء دور أكثر فاعلية بما في ذلك إخطار المجلس الدستوري … وتنشيط المؤسسات الدستورية المنوطة بالمراقبة .. وإقامة آلية مستقلة لمراقبة الإنتخابات خدمة للديمقراطية التعددية.
هذه المحاور الثرية جديرة بأن ينظر لها من قبل، المتتبعين للشأن الدستوري بعين من الأهمية القصوى نظرا لما تضمنه من انشغالات الكثيرين ... الذين ما فتئوا يطالبون بإدراجها في الدستور … وهذا ماكان لهم وهي إلتزامات وتعهدات يلمسها الجميع اليوم .. لندخل منطق المشروع التمهيدي لتعديل الدستور .. لتسلم نسخ منه للشخصيات والأحزاب والجمعيات .. وإبلاغ الرأي العام كذلك بمحتواه.
هذا كله ينضوي تحت لواء الدستور الجامع الذي يراعي كافة الاقتراحات الواردة في الإستشارة الواسعة التي حضرها المعنيون بالأمر ... ولأول وهلة تبدو تلك الإرادة الصادقة في الأخذ بعين الاعتبار ما تم اقتراحه وستكون سنة ٢٠١٦ حاسمة في هذا الإطار.
لذلك فإن ما أعلن عنه من تعديلات تسعى لتقوية كل الفاعلين على الساحة الوطنية، وخير دليل على ذلك هو إخطار المجلس الدستوري .. من قبل المعارضة « البرلمانية» وهذا في حد ذاته دعامة لم تكن من قبل بل ستسمح لهؤلاء بالعمل وفق هذا التنظيم الدستوري في حالة اعتراضهم على نص قانوني معين « يضاف إلى ذلك توفير أداة مستقلة» لمراقبة الإنتخابات .. هذا مايسمح بإبداء تفاؤل واسع حيال النشاط السياسي خلال المرحلة القادمة ليؤدي كل واحد العمل المنوط به ... مرجعيته دائما حيثيات الدستور.