ضرورة عناية منتجي الأخبار والمحررين الصحفيين بالسلامة اللغوية
يحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية الموافق لـ 18 ديسمبر من كل سنة اعترافا منه بالدور الفعّال الذي تلعبه اللغة العربية على اعتبارها لغة تتميز بخصائص تجعلها تختلف عن بقية اللغات، فهي لغة المفردات والمترادفات، الأمر الذي يجعلها من أغنى لغات العالم بعدد كلماتها، ما يدل على غنى قاموسها اللغوي، فكانت اللغة العربية ولا تزال بحر يكتشف الدر من احشائه . أو لم يقل الشاعر حافظ ابراهيم: أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي. بهذه المناسبة إرتأت جريدة الشعب أن تقترب من الأستاذ عبد الله كروم أستاذ جامعي بجامعة أدرار لإجراء هذا الحوار حول واقع اللغة العربية وآفاقها .
«الشعب”: إلى أي مدى وصلت الممارسة اللغوية باللغة العربية في مجتمعاتنا؟
كروم عبد الله: أود في البداية أن أشكر جريدة “الشعب” على هذه الاستضافة الكريمة، وهي سانحة لأشكرها على دورها التاريخي والمركزي في تفعيل الحقل الثقافي منذ نشأتها، وكان لملحقها الثقافي أثر كبير في صنع قامات علمية وأدبية وثقافية أسهمت في ترقية المجتمع وتنمية الحس الثقافي للشباب الناشئ زمن السبعينيات والثمانينيات.
أنا أرى أن الممارسة اللغوية بالعربية في الجزائر على العموم ليست في وضعية بئيسة كما يتصور، وإن كانت لم تصل للمستوى المأمول،لأسباب تاريخية واجتماعية وثقافية، رغم ما يسود الخطاب اللغوي الجزائري من هجنة، حيث علقت بخطابات الجزائريين اليومية ولغتهم الدارجة رطانات من الفرنسية، وهي ظاهرة بحاجة لدراسات نفسية وسوسيو ثقافية لمعرفة أبعادها وأسبابها العميقة.
أما الاستعمال اليومي في مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع فاللغة العربية -في نظري- في تحسن مستمر يوما بعد آخر، فقد كانت العربية زمن الاستعمار في أتعس أيامها، تعاني الحصار والتضييق، وغدت بعد الاستقلال غريبة بين أهلها يحبونها لكنهم لا يعرفونها، عبر عنها الروائي مالك حداد عندما قال في تصريح شهير”اللغة الفرنسية هي منفاي”، وهو ما عبر عنه كذلك وبطريقة أخرى الرئيس الراحل أحمد بن بلة –رحمه الله- في أول خطاب أمام جامعة الدول العربية عندما قال”لقد استقلت الجزائر، فأنا عربي..ثلاثا” ولكن اللسان العربي لم يسعفه، فقالها بالفرنسية، وهو حال جيل بأكمله، سد المستعمر في وجهه كل أبواب المعرفة والتعلم والعمل بالعربية، ووجد الفرنسية لغة التعلم والخبز والمعرفة. ثم اتخذ من تلك المعرفة منطلقا لمقاومته ومشروعه الهيمني.
هناك بعض الممارسات التي أراها تكثر في المدن الشمالية، وتقل في الريف والصحراء، وتتعلق بالمحادثة بين أفراد الأسرة الواحدة باللغة الفرنسية، كموضة أو علامة تحضر أو كترسيخ لثقافة المنصب السامي مدخله إتقان الفرنسية، ولكن العربية لغة الانتماء والدين والدولة والمجتمع بل هي لغة المسجد والمدرسة والمحكمة والثكنة ومخفر الشرطة..وهي في الوقت الحالي تكسب في كل يوم جولة تتمدد فيها حديثا وتداولا وفهما وإفهاما.
اللغة العربية هي لغة الأجيال المتعاقبة من المبدعين والكتاب من أبناء المجتمع الجزائري، وهم من مختلف الأعمار والأجيال، ومن كل جهات الوطن، ويكتبون في كل الأجناس الأدبية، بلغة إبداعية غاية في المتعة والجمال، بل أصبحوا يفتكون الجوائز العالمية والإقليمية ويتصدرون المشهد الإبداعي العربي وحتى لو كتبوا باللغة الفرنسية أو غيرها فهم يحملون الهم الثقافي والاجتماعي لمجتمعهم العربي.
واقع اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا؟
•• كما هو معلوم فإن العربية هي لغة التعليم بمختلف أطوار المدرسة الجزائرية، وكل التخصصات الإنسانية والقانونية في الجامعات والمعاهد باستثناء التخصصات التقنية والطبية التي لازالت تدرس بالفرنسية، مما يعطي للطالب فرصة لتكوينه باللغة العربية.
من موقعي كصاحب تجربة في قطاع التربية والتعليم لمدة عشرين سنة، مارست فيها التعليم والإدارة والإشراف التربوي، ثم انتمائي للجامعة لاحقا، أستطيع أن أقول إن اللغة العربية تشهد تدنيا ملحوظا على مستوى المعرفة بقواعدها وصرفها وبنيتها التركيبية، وبدا لي ذلك حتى في زقسام اللغة العربية وآدابها، حيث أصبح حاملو الليسانس والماستر في تخصص الدراسات اللغوية والأدبية يعانون نقصا وضعفا على مستوى التكوين والمعرفة والإلمام بمافتيح اللغة وأسرارها، وذلك ما ينعكس على الأجيال المتلعمة في المدرسة لاحقا، وبالتالي فإني أطالب بضرورة مراجعة السياسة التكوينية للغة العربية بالجزائر، وضرورة إشراك المؤسسات البحثية بعيدا عن الدغمائية والشوفينية والأدلجة.
•يقال أن مجتمعاتنا تقهقر فيها استعمال اللغة العربية، ماهي أسباب هذا التقهقر ؟
•• أنا لا أرى تقهقرا في الاستعمال، ولكنه ضعف في التحصيل اللغوي، وغياب الآليات التي تؤدي إلى تطوير اللغة، لتجعل منها لغة التواصل والتخاطب، فلا يكفي أن تكون العربية هي اللغة الرسمية في الدولة نظريا، ثم لا يتبع ذلك بعناية تتيح توسيع الاستعمال لها بقوة القانون على المستوى التطبيقي. وتوفر الدولة كل سبيل لتفعيل المؤسسات البحثية لاستكمال تحسين مستوى التخاطب باللغة “الأم”
إن اللغة الأم هي هوية ووطن ومجد، فلو جاز لنا أن نتعلم من المحتل، لتعلمنا منهم محبة لغتهم، وقد قال أحد الكولونياليين “اللغة مجد، والمجد مقدس”، وهذا الأديب الفرنسي ألبير كامو يردد وهو غريب بينا في الجزائر “نعم لي وطن، إنه الفرنسية” فلماذا لا نشعر بهذا المجد والتقديس للغتنا؟، وهي لغة التنزيل الحكيم، يتعبد بها أكثر من مليار ونصف مسلم، ويتحدث بها 420 مليون عربي.
تتداخل الأسباب بين ما هو تاريخي(المستعمر)، وما هو ثقافي(النخبة المفرنسة)، وما هو اجتماعي( دارجة، لغة أمازيغية، مصاهرة مع الفرنسيين..)، ولكنني أرى أن العامل النفسي والقرار السياسي هو السبب في ذلك، حبذا لو عرفنا قيمة هذه اللغة الأم وأحببناها حد الهيام، ألم يقل الزعيم الفليبيني خوسيه ريزال الذي قاد حرب تحرير وطنه” إن الرجل الذي لا يحب لغته الأم هو أسوأ من حيوان أو سمكة نتنة”، ولا يظن أحد أن اللغة لا تؤثر على بناء الشخصية الوطنية وتمتين روابط المجتمع وترسيم ثوابته ومقوماته.
•وهل للعولمة تأثير على تقهقر استعمال اللغة العربية؟
••العولمة فرص وتحديات، ليتنا وظفنا وسائطها وعوالمها السبرانية في خدمة اللغة العربية، وهي بفضاءاتها المتعددة تتيح للمواطن أن يثبت ذاته، ويتعلم حتى لغته، والعولمة كذلك تحديات للمنافسة وعرض الإنتاج الثقافي والفكري واللغوي،تتطلب اليوم جهودا لتطوير اللغة العربية وفق نتائج اللسانيات الحاسوبية رغم ما يعترض سبيلها من صعوبات تقنية ورقمية.
كيف تنظرون الى ممارسة اللغة العربية في وسائل الإعلام ؟
توجد في بلدنا مؤسسات رسمية وخاصة، سمعية ومرئية ناطقة بالعربية، هي تقدم نشرات وحصص وبرامج متنوعة ومختلفة، لها توظيف للغة العربية اليومية البسيطة، وهي تسهم بدورها في المحافظة عليها وانتشارها وبقائها، وأسجل في استعمالاتها بعضا من النقص وقلة الدراية باللغة العربية نحوا وصرفا، تلفيظا وكتابة، لاسيما تلك القنوات الخاصة التي عليها أن توظف بعض المدققين اللغويين، وضرورة عناية منتجي الأخبار والمحررين الصحفيين فيها بالسلامة اللغوية، ولا أتحدث عن الفصيح أو الأفصح.
توجد برامج ترفيهية تثقيفية وأخرى أدبية، لكنني لم أقف على حصة تعنى باللغة العربية على مستوى الجماليات والأساليب والتراكيب قصد تحبيب وتعليم العربية للناشئة والمجتمع.
•وكيف تنظرون إلى استخدامها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الاتصال الأخرى كالهاتف مثلا، لاسيما في تحرير الرسائل النصية القصيرة في الهاتف النقال؟
••لقد كسر الفايسبوك والتويتر الحواجز الجغرافيا بين مناطق الوطن الواحد، وبين الحدود الجغرافية بين دول اللسان الواحد، وأتاح للناشطين تنظيم صفوفهم في منتديات علمية وثقافية وأدبية، وشجعت تلك الوسائط على التواصل والتثاقف وتبادل الخبرات بعيدا عن الرقابة، وتستفيد اللغة العربية من فتوحات العولمة وعوالمها بإنشاء روابط ومنتديات الأدب الجزائري مثلا، والرواية الجزائرية أيضا وغيرها من الأجناس الأدبية، وهذا فضاء مساعد لاكتشاف المواهب والكفاءات اللغوية.
•ماذا عن إسهامات العلماء والباحثين في اللغة العربية؟
•• يسهم علماء الجزائر منذ ابن معطي الزواوي القبائلي في العطاء المعرفي الذي يخدم العربية تنظيرا وإنجازا، ومنذ الشيخ المغيلي صاحب كتاب “مقدمة في العربية” إلى الأمير عبدالقادر، وهؤلاء هم إيقونات ونماذج لما قدمته الزوايا والطرق الصوفية الجزائرية للغة العربية، ولا ينكر إلا جاحد جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين أبلوا البلاء الحسن في الحفاظ على الشخصية الوطنية، وصولا إلى جهود علماء الجزائر المحدثين في خدمة اللغة العربية، ولايمكن لباحث منصف أن ينكر جهود وعطاء الدكتور عبد الرحمن حاج صالح، والدكتور عبد الملك مرتاض، واكتفي بهذين العلمين حتى لا أدخل في الحرج، وكلاهما صاحب مشروع ورؤية في خدمة الدرس اللغوي العربي.
•ماهي الآليات المتخذة للنهوض باللغة العربية لترسيخ مقومات الشخصية العربية وحماية الأجيال من الذوبان في ظل العولمة ؟
••يقول محمود درويش “هذه لغتي معجزتي، وعصا سحري” فالعربية محفوظة بخلود القرآن الكريم، وبقاؤها رغم الاستعمار وحالات الوهن التي اعترتنا دهورا دليل معجزتها وسحرها.
والعربية باقية بوجود العرب الناطقين بها، والمشتغلين على تطويرها وترقيتها، فقد كانت في عصر من العصور لغة العلم والمعرفة يتسابق الغرب إلى معرفتها لترجمة ما وصلها من الثقافة والفكر والآداب والفنون، قبل أن تنتكس الحضارة العربية الإسلامية ومعها تردت الأحوال على كل المستويات، واللغة وعاء الفكر والتقدم والإزدهار كما هو معلوم.
ويمكنني أن أقول إن اللغة العربية تحتاج للثقة بها ومراجعة بعض التصورات النمطية ذات الإيحاء السلبي حولها،كما أنه لابد من تفعيل المؤسسات الوطنية المعنية بتطويرها، كالمجلس الأعلى للغة العربية، ليضطلع بمهامه في تعريب المصطلحات، وصناعة البنوك والمعاجم، وتفصيح الدارجة وتقريبها من الفصحى، ومعالجة الصعوبات التي تقف حائلا دون انتشار وذيوع المفردة العربية.
كما أنني ومن هذا المنبر الحر أدعو الجهات المسؤولة في الدولة لضرورة رفع التجميد السياسي عن اللغة العربية، وضرورة فتح القيود لمجالات نشرها دون الإخلال باللغة الأمازيغية، التي علينا كذلك العناية بها، وتطويرها، لتكون لغة وطنية، بعيدا عن أي نزعة جهوية أو عرقية أو إيديولوجية مقيتة.
•التحديات التي تواجه اللغة العربية في الجزائر، وعربيا ؟
••تواجه اللغة العربية تحديات جمة، منها كثرة المصطلحات التكنولوجية والعلمية وضعف الترجمة، وحتى على مستوى الرقمنة تواجه العربية صعوبات بوصفها لغة ترابطية بين حروفها، عكس اللغة اللاتينية التي تكتب منفصلة الأحرف في كلماتها، مما يجعل العربية تحتاج حسب خبراء المديا إلى جهود في اللسانيات الحاسوبية لتطوير التعريفة البصرية للأحرف ليسهل تركيب الكلمات حسب نسق يتوافق مع التعبيرالمعلوماتي المعروف بثنائية واحد صفر.
عصر الميديا والثورة التكنولوجية أنتج طفرة في المصطلحات العلمية والتكنولوجية، غير أن حركة الترجمة بطيئة عندنا، وهو ناتج عن ارتباطنا بلغة المستعمر التي تعتبر بدورها وسيطا للمعرفة تنقلها من اللغة الانجليزية أوالألمانية، مما يجعل ارتحال المصطلح ومفهومه إلينا غير دقيق، وغامض، وبالتالي لا نستفيد منه.خصوصا أن علم المصطلح قد استقر، وبدأ يشتغل منذ عقود على توليد المصطلحات، ومعها حمولة معرفية وأجهزة مفاهيمية وأعباء اقتصادية ومالية.
ومن التحديات التي تواجه العربية قضية توحيد المصطلحات العلمية والإنسانية رغم الجهود الحثيثة للمجاميع اللغوية ومكتب تنسيق التعريب بالرباط، فقد تولدت لدينا ظاهرة توالد المصطلحات الفردية والإقليمية، فنتج عن ذلك فوضى اصطلاحية والتعصب للمصطلح الجهوي والجغرافي.