جغرافية روسيا تجعلها أكثر حساسية لأي وضع إقليمي متوتر في محيطها الجيو - سياسي القريب والبعيد. خاضت روسيا حروبا متعدّدة كان سببها باستمرار مضايقة الدول الأوروبية الغربية لها لدرجة التهديد في القرنين التاسع عشر والعشرين وحصارها لدرجة التهديد، كذلك بعد تفكك المعسكر الاشتراكي وخاصة في العقدين الأخيرين بما فيها تنصيب صواريخ وبطاريات ومحطات عسكرية في مواجهة روسيا انطلاقا من أوكرانيا، بولونيا وتركيا وغيرها من الدول الأوروبية التي كانت تشكّل العمق الإستراتيجي والأمني للإتحاد السوفيتي سابقا (دول أوروبا الشرقية). م
معظم أو كل حلفاء روسيا سابقا بمفهوم الإتحاد السوفيتي، هم في الجهة الأخرى أعضاء بمنظمة الحلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي وهم أدوات مباشرة لمحاصرة روسيا. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل ذهب الغرب لمحاصرة روسيا في محيطها الإقليمي المباشر، خاصة المرور إلى البحر الأبيض المتوسط عبر أوكرانيا. هذه الأخيرة التي تحوّلت سياسيا على مستوى الحكومة الأوكرانية من دولة حليفة إلى دولة خصم، وبإرادة سياسية لمحاصرة روسيا رغم أن مصالح أوكرانيا العليا هي مع روسيا خاصة التزويد بالبترول والغاز والروابط الاقتصادية والصناعية، إضافة إلى حتمية مرور الاستقرار والأمن في أوكرانيا عبر علاقات تعاون متميزة مع روسيا.
فكان على روسيا أن ترفع هذا الحصار باستعادة شبه جزيرة القرم التي هي أصلا روسية ووضعت تحت النفوذ الأوكراني بعد الحرب العالمية الثانية بحكم التحالف الأوكراني السوفيتي. فالقرم سكانا وأرضا هي روسية وكان بإمكان روسيا أن تُبقي على الوضع كما هو لولا استفزازات الغرب لروسيا عبر أوكرانيا لمحاصرة روسيا. أنانية الغرب عن طريق أوكرانيا لم تعطِ لروسيا إلا خيار استباق وقف الحصار لشريان اقتصادي وأمني وعسكري عبر أوكرانيا إلى البحر الأبيض المتوسط.
علاقات سياسية متجدّرة ومصالح اقتصادية
المحطة الجيو - سياسية الأخرى المتعلقة بالمجال الحيوي الأمني والاقتصادي لروسيا هي الوضع في سوريا. هذه الأخيرة التي تربطها بروسيا علاقات سياسية متجذرة ومصالح اقتصادية تتجاوز 20 مليار دولار وتعاون عسكري عبر قواعد عسكرية روسية بمواني طرطوس واللاذقية على الساحل السوري بالبحر الأبيض المتوسط. وأكثر من ذلك، الهدف من ضرب نظام بشار الأسد هو تنفيذ إستراتيجية حصار الغاز الروسي بقدرة لتلبية أكثر من 40% من احتياجات أوروبا. الإطاحة بنظام الأسد معناه فتح الطريق أمام الغرب والأوروبيين بصفة خاصة، بتجسيد تمرير أنبوب الغاز من قطر إلى أوروبا عن طريق سوريا. إضافة إلى ذلك، أن أي نظام سياسي بديل لنظام بشار الأسد يعني تنصيب نظام إسلامي متطرّف يشكّل تهديدا لروسيا التي عانت وتعاني من استعمال الغرب للإسلاميين المتطرفين بالشيشان وغيرها لضرب الاستقرار الروسي.
الدعم الغربي الرسمي، المعلن والمتزايد ماديا وعسكريا للعناصر المرتزقة المسلحة حاملة شعار الدولة الإسلامية ضد نظام الأسد والتي تجاوز عددها في فترة ما خلال الأربع سنوات الماضية 140 ألف عنصر ـ العدد بدأ يتضاءل بسرعة نتيجة الفرار خاصة بعد التدخل الروسي ـ لقتل الأبرياء وقوات الأمن السورية، هو في الحقيقة بكلمة واحدة دعم للإرهاب وتجسيد لإرادة استخبارات ومصالح غربية.
محاربة روسيا للإرهابيين بسوريا يختلف عن منظور الغرب بالنسبة لروسيا، الإرهاب بسوريا هو أجندة غربية واضحة المعالم لتنفيذ إستراتيجية الحصار للآخرين وضرب الدولة الوطنية المخالفة لذلك ولا علاقة للدعم الغربي لما يسمى بالمعارضة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. آليات الدعم لهذا المدّ من دول الخليج لا علاقة لها بذلك بحكم طبيعة أنظمتها السياسية الملكية.
الخطر الآخر هو تركيا، التي لم تكتف بضرب المصالح الروسية عن طريق سوريا بل ذهبت للدخول في صراع مباشر مع روسيا لدرجة العمل العسكري. طبعا، لا قوة تركيا ولا مصالحها الاقتصادية التي تتجاوز 40 مليار دولار ولا المشاريع الاقتصادية والصناعية بما فيها دعم روسيا لتركيا لبناء أكبر مركب نووي في العالم بعد الصين لتوليد الطاقة الكهربائية، وغيرها من المصالح التركية مع روسيا لم تستطع إيقاف الحكومة التركية من تصرفها المعادي لروسيا. السبب، أن النظام التركي لا يعكس حقيقة مصالح تركيا بل يجسد إستراتيجية الغرب في المنطقة من موقع تركيا كعضو في الحلف الأطلسي.
تركيا أُعطي لها دور تمثيل الإسلاميين والحقيقة أن نظامها السياسي هو ضد المصالح الإسلامية المقدّسة، تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي لها علاقات مباشرة وميدانية وأكثر من العادية مع الكيان الإسرائيلي، خلافا إلى مصر فرغم أن لها علاقات رسمية مع الكيان الإسرائيلي فإن دبلوماسيي هذا الأخير لا يستطيعون ممارسة نشاط عادي داخل مصر وهم محاصرون شعبيا، والنظام السياسي بمصر لم يستطع تجاوز إرادة الشعب المصري المناهض للكيان الإسرائيلي والتطبيع معه. لتركيا علاقات اقتصادية وتجارية مع الكيان الإسرائيلي تصل إلى أكثر من 8 مليار دولار سنويا وتقوم تركيا بمناورات عسكرية دوريا مع جيش الكيان الإسرائيلي بالبحر الأبيض المتوسط.
إدارة ملف البترول في السوق السوداء
أُعطي لتركيا كذلك إدارة ملف البترول في السوق السوداء عبر الإرهابيين كمكافأة لها على الدور المناط بها (360 شاحنة نفط تمر عبر الحدود التركية دون مراقبة من الجيش التركي)، وطبعا الحجم الأكبر للبترول العربي هو في يد ولصالح الشركات البترولية الغربية. كما أعطيت لتركيا المجال التجاري والاقتصادي بالعالم العربي كبديل لسوريا، مثل المنتجات الغذائية وصناعات النسيج وغيرها من الصناعات الخفيفة والمجالات الثقافية، والتي كانت تقدّر بمليارات الدولارات.
تدخّل روسيا بسوريا خلط الأوراق وكشف تلك الأهداف والإستراتيجيات ولهذا ردود فعل الدول الغربية كانت أقوى وأسرع بما فيها استعمال وسائل الضغط وحتى التهديد. إطاحة تركيا للطائرة الروسية (24 نوفمبر 2015) بحجة اختراق الحدود التركية يدخل ضمن هذه الإستراتيجية. ويدخل كذلك ضمن هذه الإستراتيجية دخول تركيا إلى الموصل بالعراق في محاولة لوقف التكامل العراقي، الإيراني، السوري، والروسي المتزايد في مواجهة الإستراتيجية الغربية في المنطقة. هدف تركيا كذلك هو محاصرة أكراد تركيا بالتنسيق مع كردستان العراق بمبرر محاربة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية. والحقيقة غير ذلك، كون تركيا محسوبة في التعامل مع مختلف التنظيمات الإسلامية المتطرّفة في المنطقة وتدعّمهم بالمال والسلاح وتوفّر لهم الوسائل المادية في التنقل والتموين والتمويل وحتى التدريب بالتعاون مع دول خليجية مثل قطر والعربية السعودية. ذلك انسجاما مع الإستراتيجية الأكبر للدول الغربية. إن هدف تركيا من الدخول إلى الموصل هو أن يكون لها نفوذ أقوى في العراق، خاصة بعد ضرب روسيا للعناصر الإرهابية التي تدعمها تركيا في شمال سوريا، إضافة إلى ذلك دخول تركيا إلى الموصل والتنسيق مع الأكراد ينعكس سلبا على وحدة تركيا من خلال حركة الأكراد الانفصالية.
من منطلق استراتيجي، دعم التواجد الروسي بسوريا، العراق، ليبيا، والساحل الإفريقي ليس فقط بمفهوم المصالح السياسية والاقتصادية بل بمفهوم إدارة الأزمات من منطلق توازن القوى. تدخل روسيا في سوريا أضعف الإستراتيجية الغربية في المنطقة وأصبحت روسيا عاملا مهما في إدارة التسوية بسوريا من منطلق القوة والنفوذ العسكري. روسيا ترفض التدخل الدولي العسكري على مستوى مجلس الأمن وتقف ضد ذلك بداية برفض التدخل ضد سوريا. وبما أن الغرب يتدخّل تحت غطاء محاربة الإرهاب، فمن حق روسيا أن تفعل نفس الشيء. ونتيجة التدخل الروسي هي قلب الموازين وتوضيح الرؤى محليا إقليميا ودوليا. خلافا لما كان عليه الوضع في سوريا لأكثر من أربع سنوات. بنفس التصور يمكن دعم هذه المقاربة الروسية في محاربة الإرهاب والتعامل في مناطق أخرى بما فيها شمال إفريقيا والساحل الإفريقي. ترك المجال فقط للقوى الغربية جعل المنطقة سجينة للمنظور والإستراتيجيات الغربية وفي مقدمتها التدخل العسكري المباشر على غرار ضرب الحلف الأطلسي لليبيا سنة 2011، والتدخل الفرنسي في مالي سنة 2013. روسيا ترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول لأنها كانت هي نفسها ضحية لذلك بعد تفكك الإتحاد السوفيتي وذلك بدعم الغرب للشيشان، وهي الآن تحاصر في عمقها الإقليمي من خلال أوكرانيا ودول مجاورة لها.
ورقة بيد الغرب
الشعب التركي يعرف أن تركيا تستعمل كوسيلة من طرف الغرب من أجل أهداف وأبعاد تتجاوز مصلحة تركيا. فلعشرات السنين وتركيا تطلب الدخول في السوق الأوروبية أو الإتحاد الأوروبي ولكن الطلب يرفض باستمرار. ولكن عندما يتعلق الأمر بقيام تركيا بدور الدركي في الجهة الشرقية لإستراتيجية الغرب تدعم وتدفع للقيام بذلك. ضربت كل من الجزائر أثناء الثورة الجزائرية (1961)، تونس (1961- ضرب بنزرت) ومصر (1967) وليبيا (1986 و2011) والعراق (1991 و2003) وتركيا عضو في هذا الحلف، ولعبت دورا أساسيا في هذه الضربات. وهي أدوار تنعكس سلبا وخطرا ليس فقط على مصالح تركيا الإقتصادية بل حتى على أمنها ووحدتها الترابية.
ألم تتعلّم الأنظمة السياسية للدول العربية والإفريقية الدرس، أن الغرب ليس له أصدقاء، بل مصالح مهما كان مستوى المظهر للصداقة. حسني مبارك بمصر كان حليفا للغرب لعشرات السنين ونفس الشيء لزين العابدين بن علي بتونس، ولكنه تم التخلي عنهم، ونفس المصير سيواجه الأنظمة الموالية لهم في الخليج من خلال توريطهم في حرب اليمن بمبررات بجميع المفاهيم لا تخدم مصالح دول الخليج، بل ولا أنظمتها السياسية في حد ذاتها. لنقرأ فكر وذهنية صانع القرار في الغرب التي تتباين مع المرجعية الملكية والإماراتية لدول الخليج. باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان تكون الأنظمة السياسية لدول الخليج قابلة للزوال، فقرار فقط من مجلس الأمن يفرض حق المواطنة باسم حقوق الإنسان للآسيويين المتواجدين بدول الخليج يمكنهم من التواجد في هرم السلطة من وضعهم كأغلبية ساحقة لسكان دول الخليج. فلنقرأ الواقع والأبعاد برؤية مستقبل شعوبنا وأوطاننا.